قاعدة “حميميم” ليست فرعًا لتنظيم القاعدة في الساحل السوري، إنما هي قاعدة عسكرية جوية، تستأجرها القوات الروسية من النظام السوري، بناء على عقد “قانوني” مدته نصف قرن، قابل للتمديد “أوتوماتيكيًا” لمدة ربع قرن.
وكما كانت دار أبي سفيان في الإسلام، فإن المعارض “الداخلي” الذي يدخل قاعدة “حميميم” هو آمن، ويستطيع أن يتحدث ويناقش في شؤون السياسة السورية وينتقد بحرية، طالما أنه في القاعدة العسكرية، أما بعد أن يخرج منها، فلا أحد يضمن ما يجري له.
هكذا تُمارس السياسة في سورية منذ عام 2017، فبعدما هاجر كل معارضي النظام بيوتهم ومدنهم وقراهم إلى خارج البلاد، بفعل الملاحقة الأمنية والخوف من الاعتقال أو الموت، لم يبق من مكان آمن تُمارس فيه السياسة إلا داخل قاعدة عسكرية روسية، وهنا لا بد من شكر الاحتلال الروسي الذي كان أكثر رحمة من النظام السوري، في التعامل مع المعارضة الداخلية، فهذا الاحتلال، مع أنه عسكري ومن دولة عدوة للسوريين، هو أرحم من النظام الذي يحكمهم، والذي يُفترض به أنه نظام سوري من أبناء البلد.
تشبه حال سورية من هذه الزاوية الآن حالها قبل ثمانين عامًا، يوم كانت تخضع للاحتلال الفرنسي؛ إذ كان الاحتلال الفرنسي على درجة راقية نسبيًا في التعامل مع سياسيي سورية، بل حتى مع سياسيي سورية المعارضين لفرنسا، وهو ما لم يتوفر لهؤلاء ابتداء من مجيء حزب البعث إلى الحكم.
لكن لماذا يرغب الروس في منح معارضة الداخل مطارًا كحميميم، وربما مطار دمشق الدولي، كفضاء محمي لممارسة السياسة، ولماذا يبدو الأمر وكأن الروس مُغرمون بالمطارات، حتى إنهم عقدوا العزم مرارًا على عقد مؤتمر يناقش مستقبل سورية ويُشرّع لها دستورها في “حميميم”، ثم اقترحت مطار دمشق، إلى أن تقرر عقده داخل الأراضي الروسية، لكن ليس في مطار، إنما في منتجع اسمه سوتشي.
هل لأن المطارات أكثر أمانًا لهم؟ أم لأن لها رمزية معينة تتجسد بأنها نقطة التواصل الأقرب بين سورية وروسيا، إذا اعتبرنا أن السفر جوًا هو الأكثر سرعة وأمانًا وعبورًا دون حواجز مخابرات أو جيش.
المطار هو مكان دولي، مكان خارج المكان، وبمعنى ما هو خارج الأرض السورية، حيث الهيمنة الكلية للنظام وأجهزته، وحيث امتنعت السياسة في هذه الأرض منذ نصف قرن، حتى أصبحت كمستنقع ناف للسياسة، كما للحياة، على الطرف الآخر من المطار، كمجال للسياسة المعارضة، منضبطًا ومحميًا من الاستعمار الروسي.
هنالك دوران متشابهان يلعبهما كل من النظام داخل سورية، والمعارضة خارجها، يتعلقان بالتبعية والممارسة، وفيما يبدو جليًا أن النظام أسير لتوجيهات الاحتلال الروسي، فإن المعارضة هي بدورها أسيرة لأربع دول، ولو بحثنا عن كلمة، أو مصطلح يصف فاعلية كل من النظام والمعارضة؛ لقلنا إن كليهما يُمارس أي شيء سوى السياسة، على الرغم من أن كليهما يُمارس السلطة، بحسب قوة وتموضع ومجال كل منهما، بكل ما تعنيه السلطة بمعناها السلبي من فساد وانغلاق وتعنت ولا مبالاة وتعالٍ.
وهكذا، لا يبدو حال كلّ من النظام القابع في دمشق، والمعارضة المتوزعة في إسطنبول والرياض وبرلين وباريس، أفضل من حال معارضة الداخل المجتمعة في مطار “حميميم”، إن كان من جهة حرية العمل واستقلال الرأي، أو من جهة الاستقرار النفسي لأفرادها، لكن يبقى لمعارضة الداخل أكثر من ميزة، مقارنة بالنظام والمعارضة معًا، أولاها أنها لا تمارس أي نوع من أنواع السلطة -وكيف تُمارس وسيف النظام مُسلّط فوق رؤوس رموزها- وثانيها أنها، على ظرفها القاهر، لم توصم بالفساد حتى اللحظة، لكأن الفساد مرتبط بممارسة السلطة حصرًا، وهو يبتعد عن الإنسان بقدر ابتعاده عن السلطة، أو بقدر ابتعاده عن ممارسة السلطة.
ختامًا، بقدر ما يبدو المطار مكان عبور لطائرات عابرة، تبدو “السياسة” المتاحة لجماعة “حميميم” عابرة أيضًا، وتابعة لاشتراطات الاحتلال، وإن كانت اشتراطاته أقل قسوة من اشتراطات النظام أمنيًا وسياسيًا. لكن الدلالة الأخطر في هذا الموضوع هي أن يُصبح مطار “حميميم” المكان الوحيد الذي يُسمح فيه بتنفس سياسي علني في المناطق التابعة للنظام، لكأن النظام والروس معًا يقولان للسوريين: لا تحلموا بحرية الرأي والسياسة إلا بحماية طيران الاحتلال وتحت راياته.