منشور من عدة كلمات على صفحة رئاسة الجمهورية يفيد بإصابة “سيدة القصر” بداء سرطان الثدي، ابتدأ الكلام بعبارة “بقوة وثقة وإيمان”، ولَم يوضح المنشور الثقة بمن، ولا الإيمان بماذا!
الكلمات الثلاث الأولى تجعلنا نذهب بعيدًا، معتقدين بأن جيشنا أصبح على تخوم طبريّا، على سبيل المثال: “بقوة وثقة وإيمان”، انطلقت جحافل جيشنا صبيحة هذا اليوم في معركة وجودية لتحرير فلسطين، لكن الصورة المرفقة بالخبر قالت غير ذلك.
في الصورة المدروسة بعناية فائقة، سيدة القصر ترتدي قميصًا أبيضَ ناصعًا، وبنطالًا من القنب (لينين) السماوي الشفاف، وعند الركبتين يظهر حزامه الأبيض، وحذاءً رياضيًا أبيضَ يدل على الحيوية والشباب، مرتديةً ساعة متوسطة الحجم تضفي على معصمها النحيف مزيدًا من الأنوثة تماشيًا مع الموضة. ولم تنس السيدة الأولى طلاء أظافرها بالأحمر القاني اللامع. تنظر إلى “بعلها” نظرةً جانبيه تعلوها ابتسامة تضج بالحياة، في مشهد رومانسي رقيق. أما بعلها فيرتدي الـ “تي شيرت” الأسود والبنطال البني يجلس على كرسي أصغر حجمًا من كرسي السيدة التي ما زالت أكياس الدواء مُعلّقة في ذراعها، مع أنها فارغة من أي محتوى. أما الغرفة التي تبدو أنها في أحد المشافي العسكرية، فلا تشبه في طلائها الأزرق الفاتح باقي المشافي السورية التي لم تحظ بأي طلاء، منذ خروج المستعمر الفرنسي.
بداية، أوضح أننا لا نشمت بمرض أحد، فجميعنا يعرف بشكل شخصي عشرات المرضى بالسرطان، في عائلاتنا وبين أصدقائنا، وكُتِبَ الكثير تحذيرًا بأن نسبة الإصابة بهذا الداء في سورية قد تجاوزت المعقول، وربما يعود ذلك إلى نوع الذخائر التي قصفت بها روسيا المدن السورية، أو حشوات البراميل التي كان الخبراء الإيرانيون يشرفون عليها.
لا شك في أن ما قامت به رئاسة الجمهورية، بإعلانها عن مرض سيدة القصر، يُمثّل نهجًا جديدًا من “الشفافية”، يختلف عن نهج جمهورية حافظ الأسد، فمثلًا مرض حافظ الأسد ومات، والشعب لا يعرف مرضه، بينما جمهورية بشار أعلنت عن مرض “سيدة الياسمين” بكل شفافية. مثال آخر: في جمهورية حافظ كان يختفي الإنسان نهائيًا، ولا ترسل السلطة كتابًا يبيّن تاريخ وفاته وأسبابها إلى السجلات المدنية، بينما في جمهورية بشار، ومع ارتفاع منسوب الشفافية، تصل كل يوم قوائم بأسماء مئات المعتقلين الذين ماتوا بسبب “داء الكلب”، بعد أن قام رجال الجمهورية “بعضّهم”.
نعم، إنه السرطان، يصل بكامل فخامته وأناقته إلى قصر الشعب، كل الشعب، ويختار “سيدة الياسمين”، كما يُحِب مُريدوها أن يسموها، متناسين أن الياسمين قد هاجر من صدور السوريين، واستوطن في الزعتري، وأطمة وعرسال، ووصل إلى أوروبا والقطب الشمالي وأستراليا، ولَم يبق في دمشق زهرة ياسمين واحدة، نضعها على المقابر الجماعية التي خلّفها بعل “سيدة الياسمين”.
شاركت “سيدة الياسمين” في قتل سيدة القمح، وسيدة الزيتون، وسيدة القطن، واستقبلت أبناء القتلة وأهدتهم الهدايا والألعاب، وضحكت معهم ولاعبتهم ووجهت لهم الشكر. “سيدة الياسمين” لا تفهم حقيقة مشاعر الأمهات السوريات اللواتي حُرِمن حتى من جثث أبنائهن بعد تصفيتهم، من أجل دفنها، كي لا يكون لأبنائهن قبر يزرنه.
الفرق شاسع وهائل بين سرطان يزور قصور القتلة، وبين سرطان يزور بيوت الفقراء. ففي ساحات مشفى البيروني كانت المشاهد تُدمي القلب لمواطنين سوريين حضروا قبل يومين من كل أنحاء سورية، ينتظرون الجرعة الكيميائية في ساحات المشفى الخارجية، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وفي نهاية انتظار طويل كانوا يحصلون على ربع حاجة المرض من الجرعة، لأن الجرعات كانت تُسرق وتُباع للمشافي الخاصة. شاهدت ذلك مرارًا لسوريين لا يمتلكون أجرة الطريق كي يعودوا إلى منازلهم بعد الجرعة، كانوا بالعشرات يتجرعون الذل والمهانة، قبل أن يتجرّعوا جرعة كيميائية منهوبة.
في أول تعليق لـ “سيدة الياسمين” على مرضها، قالت: “أنا من هذا الشعب الذي علّم العالم الصمود والقوة ومجابهة الصعاب، وعزيمتي نابعة من عزيمتكم وثباتكم كل السنوات السابقة”.
عن أي شعب تتحدثين؟ عن الشعب الذي قمتم بتهجيره من الغوطة وداريا وحمص وتدمر ودمشق؟ عن الشعب الذي ركب موج البحر هربًا من جرائمكم؟ عن الشعب الذي غيبتموه في ظلام الزنازين، ثم أعلنتم وفاته؟ عن الشعب الذي دكت القاذفات الروسية منازله فوق رؤوس أهله؟
هل سمعتِ، يا “سيدة الياسمين”، عن حصار مضايا؟ هل تعلمين عدد الذين فارقوا الحياة بسبب منع الدواء عنهم؟ هل شاهدت على التلفاز كيف قامت ميليشيات بعلك الهصور المغوار بسرقة الدواء من قوافل الإغاثة؟ هل شاهدتِ الفرحة على وجوه الإعلاميين، حين كانوا يعثرون على بعض القطن والشاش وكأنهم عثروا على كنزٍ دفين؟
يبدو أنك تتحدثين عن شعب آخر غير الشعب السوري، وربما تعتقدين أن الشعب السوري هو عشرات المرتزقة الذين يصفقون لك من منتسبي الأمانة السورية للتنمية التي نهبت مساعدات الأمم المتحدة بمشاريع وهمية، أو جمعية البستان الخيرية التي أصبحت ميليشيا مسلحة من مال الشعب المنهوب!
لسنا شامتين بمرض أحد، لكننا هازئون بالياسمين.
سيدة اليقطين وكتير عليها