كلّما تأمّلنا تحوّل مسارات الثورة السورية، خلال السنوات السبع الماضية، نشعر أكثر فأكثر أن كل ما نقرأه ونبحث عنه كي نستوعب أو نفهم أسباب مآلها إلى تراجيديا خالصة، لا يُفسّر أو يفكّك بصورة شافية هذا “التسونامي” العدمي الذي حطمت همجيته غير المسبوقة كل القيم والمعايير الأخلاقية. المدهش في الحالة السورية هو هذا البرود الظالم المعتم في ردود أفعال المجتمع الدولي على هذا التوحش، حيث لم يُحرّك ساكنًا تجاه هذا اللامعقول الهستيري لتلك الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، باستثناء المناورات السياسية المشينة في بعض المفاصل لما سٌميّ “أصدقاء الشعب السوري”. الأنكى أن ما يُطلقون عليه “المجتمع الدولي” بات اليوم بعد كل تلك المآسي يعمل جاهدًا على إعادة تلميع صورة المجرم، وتتويجه فوق مئات آلاف جماجم ضحاياه، وكأن شيئًا لم يحدث!
أي عبث هذا الذي يجري دون أن تهتز شعرة في ضمير الإنسانية، رغم أن “الموت معلن”، والجريمة كاملة الأوصاف، والمجرم وشركاؤه معروفون؟!
في الحقيقة الكل يعلم، لكن الجميع متواطئون بدرجة أو بأخرى، ولكل أسبابه، لذلك لا أحد يريد أن يبوح بالحقيقة أو يضع أصبعه على الجرح.
وحدها صورة الطفلة الفيتنامية، العارية، الهاربة من جحيم النابالم الأميركي، أثارت الرأي العام الأميركي والعالمي، وغيّرت مسار الحرب على فيتنام، بينما آلاف الصور الفاجعة التي سرّبها “سيزار”، ووصلت إلى قبة الكونغرس الأميركي، وُضعت في الأدراج كي يطويها النسيان… شعبٌ بأكمله يُذبح، ويُدّمر، ويُهجّر بالملايين على رؤوس الأشهاد، والعالم بأجمعه صامت، أو مراوغ، أو شريك في الجريمة، فأي لغز وراء هذا المشهد؟!
ثمة جدل عقيم عبر المنابر الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، لا ينتهي، لكنه يتبدّد مثل الأثير دون جدوى أو صدى. بإمكاننا الجدل إلى ما لانهاية حول استراتيجيات الدول ومصالحها المتناقضة، والأوضاع الجيوسياسية المعقدّة في المنطقة، ودور الأجهزة الاستخباراتية، ومصطلحات: الإرهاب، والإسلام السياسي، والعلمانية، وأخطاء المعارضة، وجرائم أصحاب الرايات السوداء ومشغليهم… إلى آخر ما هنالك من قضايا إشكالية، لكن هذا ليس موضوعنا.
موضوعنا هو سقوط القيم الإنسانية، وسحق كرامة البشر وأحلامهم بالحرية، التي تُداس دون رحمة أمام مرأى ومسمع العالم أجمع. لقد عرّت الثورة السورية المجتمع الدولي، ومزقت أقنعته الزائفة.
يُقال: إن الحقيقة عارية، فهل هناك أكثر عُريًا من حقيقة تلك الأجساد المنتهَكة، العارية في صور “سيزار”، التي كأنها تصرخ في وجه البشرية: أين العدالة؟! لماذا لا تريدون أن تصدقوا حكايتنا المأسوية؟!
أتساءل: إلى أي حقبة من التاريخ سوف تنتمي تراجيديا الثورة السورية. هل نحن في زمن البربرية القديمة، أم أننا أمام حداثة بربرية، هي أشدُّ لؤمًا وقسوةً؟!
علينا ربما، أن نكفّ عن متابعة التقارير الإعلامية اليومية الكاذبة، إذا أردنا أن نفهم حقيقة تراجيديا الثورة السورية. علينا قراءة أو إعادة قراءة “فاوست” غوته وتأمّل الصراع بين الإله والشيطان. علينا ربما العودة إلى كلاسيكيات الأدب والفلسفة، إلى تراجيديات شكسبير ودوستوفسكي، وأعلام التنوير في الثورة الفرنسية، دون أن نغيّب بطبيعة الحال قراءة التنويريين العرب، ومن حرّكت الثورة السورية ضمائرهم الحيّة، من كتّاب وفلاسفة وعلماء اجتماع عرب وسوريين.
يُقدّم غوته العجوز في الفصول الأخيرة من “فاوست” نموذجًا لفعل اجتماعي تتداخل حوله جملة من المجتمعات المتقدمة والمتخلفة، وسلسلة من الأيديولوجيات الرأسمالية والاشتراكية، غير أن غوته يصرُّ على أن عملية التداخل هذه هي عملية مرعبة ومأسوية. عملية مطبوعة بدماء الضحايا، عملية مطوّقة بعظام وجماجم هؤلاء الضحايا، عملية تتجسد بالأشكال والألوان نفسها في الأماكن كلها. يصرخ فاوست: “الضحايا البشرية نزفت… راحت أنّات العذاب تتعالى وتمزّق هدأة الليل”.
يُعلّق الكاتب الأميركي مارشال بيرمن في كتابه (كل ما هو صلب يتحول إلى أثير) على فكرة غوته بالقول: “إن سيرورة التنمية التي تصورتها الأرواح الإبداعية الحالمة في القرن التاسع عشر بوصفها مغامرة إنسانية عظيمة وجليلة باتت في حقبتنا نحن بالذات ضرورة حياتية، ضرورة حياة أو موت، بالنسبة لسائر الأمم وجميع النظم الاجتماعية في العالم، وبالتالي فإن السلطات المولعة بالتنمية في الأماكن كلها قد راكمت نفوذًا بالغ الهول والضخامة، نفوذًا غير قابل لأي تحكم أو سيطرة، بل نفوذًا جهنميًا مهلكًا إلى أبعد الحدود في كثير من الأحيان.
هل هو قدرنا التراجيدي في سورية، والمشرق العربي عمومًا، أن تكون منطقتنا ساحة صراع مفتوحة بين “فاوستات” العالم وأذرعهم المتمثلة بـ “مفيستو” الشيطان؟!
هل هو قدرنا المأسوي أن نعيش في زمن “فاوستي” متجدد يرى فيه بوتين اليميني القومي في سورية فرصةً ثمينة لاستعادة مجد القياصرة على حساب دماء شعبنا؟
هل هي الصدفة أن ينهض السوريون للمطالبة بحريتهم وكرامتهم في اللحظة التي يتمدد فيها النفوذ الفارسي، بعباءة الملالي والولي الفقيه، الذي يتطلع إلى استعادة أمجاد فارس على جماجمنا؟
لا حاجة للحديث عن “فاوست” الصهيوني, فهو كلمة السر، التي تتكشف فصولها شيئًا فشيئًا، وها هو عرّابه الشعبوي “فاوست” الأميركي، الذي يملأ الدنيا صخبًا وضجيجًا ينتزع من شياطينه الصغار صفقة العصر التي لم تتكشف أبعادها بعد، لكنه يرش القنبز، ويُطلق الوعود للمقهورين في بناء المدن والموانئ والمشاريع العملاقة، التي ستجلب المن والسلوى، وتحل الأزمات المديدة المستعصية، ولو على حساب التاريخ والجغرافيا، وآلام ملايين البشر.
من جهتها تغرق أوروبا العجوز بمشاكلها، بعد انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوربي، وصعود اليمين المتطرف، باستغلال بشع لذريعة الخوف من تدفق اللاجئين والمهاجرين، وتنامي العداء للمسلمين، الذي يُهدّد تدفقهم الهوية الثقافية للغرب، وبالتالي أمنه واستقراره كما يدعي هؤلاء، لذلك تجد أوربا نفسها اليوم في مناخ ثلاثينيات القرن الماضي، الذي صعدت خلاله النازية والفاشية. هذا المناخ تغذيه نزعة بوتين القومية من جهة، ونزعة ترامب الحمائية الشعبوية من جهة أخرى، وشعارها: أميركا أولًا، المعادي بجوهره للقيم الليبرالية، والانفتاح على الآخر بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه، وعن حقوق المرأة…. الخ، لذلك كانت قوة ترامب الانتخابية بين العمال البيض والمهمشين خارج المدن الكبرى، الأمر الذي فاجأ النخب الأميركية.
لا بد أخيرًا من الإشارة إلى خروج المارد الصيني من قمقمه، وها هو يخوض حربًا تجارية مفتوحة مع الولايات المتحدة، ويُعمّق تحالفاته مع روسيا أولًا ودول “البريكس”، ومعاهدة شنغهاي في صراعه مع الغرب. آخر مفارقات “فاوست” الصيني إعلانه الاستعداد للتدخل في إدلب السورية عسكريًا، وهكذا يتساوى كل شياطين الأرض الذين تقاطعت مصالحهم على الأرض السورية، بوصفها ملعبًا غير مكلف لها، طالما أن الفاتورة هي من دماء السوريين، التي لم توثق صور “سيزار” الفاجعة سوى النذر اليسير منها!