يعتقد (محمد، ع) أن الحظ حالفه، عندما ترك وظيفته الرسمية مبكرًا، والتفت للتجارة، من أجل كسب المال. يقول: كنت أرتدي ملابسي صباح كل يوم، وأقود سيارتي (اشتريتها بالتقسيط) للوصول إلى عملي، ثم أجلـس خلف مكتبي نحو سبع ساعات، لأقبض في نهاية الشهر 35 ألف ليرة، ما يعادل 80 دولار تقريبًا، حاليًا، لا أعرف على ماذا أنفقها.
بالنسبة إلى معظم المنخرطين في سوق العمل، يعكس التساؤل الذي كان (محمد) قد طرحه حول أوجه إنفاق الدخل المحدود، وعجزه الواضح عن ترتيب أولوياته، في زمن الحرب، قياسًا إلى انهيار قيمة عملة بلده أمام أسعار العملات الأجنبية، وارتفاع نسبة التضخم إلى 1200 في المئة، وزيادة مماثلة في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، والسكن، والصحة، والتعليم، والطاقة، وغيرها. يعكس نمطًا جديدًا من الحياة، تحت تأثير صراع امتص قدرة الأفراد على التكيف مع ما شهدته البلاد من متغيرات اقتصادية، طالت عواقبها شرائح المجتمع الضعيفة.
في مكتب واسع ضمن بناء طابقي، يشرف على ساحة يوسف العظمة وسط العاصمة السورية، يدير محمد شبكة تجارية، كغيره من الفاعلين الجدد في قطاع التجارة، تعنى باستيراد مواد يحتاج إليها السوق، ويجري إرسالها لاحقًا، عبر طرقات بعيدة عن الأعين، إلى مناطق داخلية هادئة، وأخرى لا تصل إليها عربات النظام.
يقول محمد: كان الرأي العام يتجه في تقييمه إلى أن الحرب ستلتهم كل شيء، وكان الشعور السائد يشير إلى أن موجودات المخازن والمحال لا تكفي. وأن الحكومة غير قادرة على ممارسة دورها بسبب العقوبات التي فرضها الغرب على النظام. الندرة التي صنعتها الحرب حفزت غريزة البقاء لدى السكان، وفتحت لي، ولغيري، الطريق كي نستفيد بمساعدة الحكومة.
تشكل الأنشطة التي ساهمت في تلبية احتياجات المجتمعات المحلية من المواد والسلع الضرورية، بعد انكماش خطط الإنفاق الحكومي بشقيها الجاري والاستثماري، وتراجع خدماتها ذات الطابع الجماعي والاجتماعي (تخصيص إيرادات الدولة لصالح جيش الأسد ودعم آلته العسكرية) اقتصادًا خفيًا، توسع خلال السنوات الأخيرة باطِّراد لافت. فبعد أن كانت نسبته في مرحلة ما قبل الحرب لا تتعدى 45 في المئة، وتعمل في قطاعاته المختلفة تشكيلات تبحث عن خفض التكاليف والتحرر من القيود الرسمية والجبائية، أصبحت نسبته الآن -وفق تقديرات مستقلة- نحو 78 في المئة من حجم الاقتصاد السوري، يسيطر عليه الأقوياء ماليًا، والمضاربون وتجار الحروب، علاوة على قادة ميليشيات وشبيحة استفادوا من نقاط التفتيش التي يسيطرون عليها في فرض غرامات ورسوم وضرائب، وعقد صفقات مغلقة ولدت ثروات هائلة؛ ما يعني أن الحكومة لا تسيطر اليوم إلا على نسبة 22 في المئة فقط من اقتصاد البلاد.
بين عامي 2010 و2017، رفع الاقتصاد الخفي حجم التهرب الضريبي من مليار دولار إلى 3.61 مليارات دولار. وتتفق مصادر دولية على أن الصراعات المحلية والحروب الداخلية التي تشعلها، في معظم الأحيان، أنظمة فاسدة يغلب عليها الطابع الشمولي والاستبداد، تخل بالمعايير الاجتماعية، وتضعف قيم المواطنة على الدوام. وحین لا یدفع الأثریاء ضرائبھم؛ یفقد النظام الضریبي شرعیته. وحین یكافأ الغش، ویرى الناس أن قواعد مختلفة تطبق على النُخَب، یحلّ الشك محل الثقة، وينهار التماسك المجتمعي، وتتفكك الدولة لمجموعة مصالح خارجة عن دائرة السيطرة.
في نوفمبر 2013، أعلنت وكالة (رويترز)، في تقرير لها، وجود شبكة سرية لتجارة القمح والسكر والأرز، وسلع أساسية أخرى، جنت أرباحًا طائلة تقاسمتها مع مقربين من الرئاسة. كما وفرت شركات وهمية سجلها أحد أقرباء الأسد، في الملاذات الضريبية البعيدة، ثروة استفاد منها النظام، تبلغ قيمتها، بحسب وثائق (بنما)، التي نشرتها صحيفة (sueddeutsche zeitung) ما يوازي 60 في المئة من إجمالي الاقتصاد السوري.
وعلى سبيل المثال، يحتكر ثلاثة مستوردين، وفق صحيفة محلية، استيراد وتوزيع مادة السكر على مستوى البلاد. كما حقق أحد مستوردي الزيت النباتي خلال شهرين ربحًا صافيًا، يقدر بنحو 2.3 مليون دولار.
منذ خمس سنوات، تشهد سورية احتكارات على خطوط تجارية مختلفة، تتولاها نخبة أمكن لها أن تعزز موقعها السياسي، وأن تنمي ثروتها، وتسيطر على الغالبية العظمى من الاقتصاد. إن سياسة التفضيل التي اتبعها نظام الأسد فتحت المجال واسعًا لكي تتنافس هذه النخبة من دون ضجيج، على مزيد من المال، والثراء، في نطاق اقتصاد خفي محمي بقوة الفساد.
تقدم الحكومة نفسها بغطرسة سياسية واقتصادية، من دون أن تلتفت حتى إلى مسألة ضلوعها في المحاصصة، وتسهيل وصول القادمين الجدد إلى المال العام، وتورطها في صفقات تعج منها رائحة الفساد. إن أسوأ نموذج معبّر على هذا الصعيد هو ما تمخضت عنه اتفاقية التسهيل الائتماني، بين سورية وإيران، التي بلغت قيمتها 1 مليار دولار. حيث سمحت الحكومة لمؤسسة رسمية أن تعلن مناقصات لشراء مواد غذائية وسلع أخرى من إيران، وأبرمت صفقات عديدة برعاية لجنة اقتصادية تضم وزراء في الحكومة. غير أن جميع المواد التي دخلت البلاد لم تكن مطابقة للمواصفات والمقاييس الدولية المعتمدة. وجرى الاعتراض بشدة على صفقة شاي إيراني فاسد لا يصلح كمادة غذائية، إلا أن أحد الوزراء، وهو عضو في اللجنة، أصر على إتمامها وسمح بدخولها، ثم علق متهكمًا: “عندما يقدم لك جارك طبق من البرغل، عليك قبوله، ولو كان خامم”، أي غير صالح للاستهلاك.
في السياسة، يدعم الأسد نخبًا وجماعات تعمل لصالحه، لكنه عمليًا يوزع، بحسب ما تؤكده الوقائع، طبق برغل مسموم، لن يسلم من ضرره لا الخصوم، ولا الأصدقاء.