في عام 2011، أدت الضرورة الأمنية للنظام إلى قيام السلطات السورية بقمع التظاهرات (التي استمرت حتى عام 2013)، من خلال حملات الاعتقال الجماعية، وإطلاق النار على الحشود، واستخدام القناصة، وفرض الحصار على المدن. ووصَف رأس النظام السوري، بشار الأسد، هذه الحركة الشعبية والسلمية بالمؤامرة الإرهابية (المؤامرة الكونية)، لإغلاق الباب على الفور أمام أي حوار تعددي، والانتقال إلى العمل العسكري.
ومنذ خريف 2011، تمّ إقحام جميع الموارد العسكرية للنظام (الجيش والمخابرات والميليشيات الرديفة) في معركته ضد الثورة. ومنذ عام 2013، تلقى النظام دعمًا لوجستيًا عسكريًا من الجناح المسلح لـ (حزب الله) اللبناني، ومن الحرس الثوري الإيراني، ومن الميليشيات الشيعية العراقية، لمساعدته في التصدي لحالة استنفاذ قواته.
وكان السلاح الذي قدمته روسيا مساعدًا للنظام إلى حدٍّ بعيد، ويتألف من الأسلحة التقليدية (المدفعية، الدبابات، الطيران)، وكذلك الأسلحة غير التقليدية، باستخدام الصواريخ بعيدة المدى ضد البلدات الواقعة في شمال البلاد، والقنابل الانشطارية والعنقودية والارتجاجية والحارقة، وإسقاط البراميل المتفجرة المصنعة محليًا من المروحيات، واستخدام الأسلحة الكيميائية. هذه الفئة الثانية من الأسلحة، الأسلحة غير التقليدية، استخدمت بشكل خاص ضد السكان المدنيين.
ووصل الصراع العسكري، بين قوات النظام والمجموعات المسلحة العديدة المعارضة، إلى دمشق، حيث توسّعت الجماعات الإسلامية الجهادية في سورية منذ عام 2014، وتعددت انتماءاتها وأفرعها.
وهذه المجموعات التي تقدمت في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة تمكنت في الواقع من التقدم أيضًا ضد الميليشيات الشيعية، وضد قوات النظام، بمحاربتها ودفعها إلى الوراء، حتى خريف عام 2015، عندما بدأت الحملة الجوية الروسية في سورية، التي أنقذت الأسد وإيران من انهيارات دراماتيكية في أغلب المناطق السورية.
أدى تزايد التدخلات الخارجية على مر السنين إلى تعقيد الصراع في سورية. ومع ذلك، فإن هذه التدخلات على الأرض أخذت تتغذى على الأزمة المشتعلة الأساسية للحرب: وهي عملية قمع شاملة ضد معارضة متعددة الأشكال، في حين أن مشاركة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد (تنظيم الدولة الإسلامية)، منذ خريف عام 2014، نجحت في الحد من سلطته، وسيطرتها عام 2017 على المناطق الشرقية من سورية، إضافة إلى التدخل المباشر لروسيا إلى جانب نظام بشار الأسد من تشرين الأول/ أكتوبر 2015 بطيرانها، وصواريخها طويلة المدى. ومكنت روسيا النظام السوري، بخبرة المستشارين العسكريين، من استعادة جزء من الأراضي التي فشلت الدولة السورية في استعادة السيطرة عليها منذ عام 2012، مثل حلب وداريا 2016، والغوطة الشرقية عام 2018، ومؤخرًا درعا والقنيطرة. ومن هذا المنظور، فإن وقف إطلاق النار، أو ما سُمّي لاحقًا (مناطق خفض التصعيد)، الذي دخل حيز التنفيذ في 27 شباط/ فبراير 2016 قد منح بعض الراحة للنظام، على الرغم من (الحوادث) التي تخللتها.
سياسة “الأرض المحروقة”
لم يكن هذا هو الحال مع العمليات العسكرية التي تستخدم الدمار كأداة تكتيكية. لكن بعد تعرض القوات الحكومية لنكسات كبيرة واجهتها في صيف عام 2012، بدأت في سعيها لاستعادة الأراضي المفقودة، مما جعلها تلجأ بشكل متزايد إلى هذه الأساليب لاستعادة مدينة ما كانت قد فقدت السيطرة عليها، إذ يتم قصفها أولًا بالمدفعية، حتى تتراجع الجماعات المسلحة داخلها، ثم تستعيدها قوات النظام، حتى لو كانت المدينة قد تحولت إلى ركام.
على سبيل المثال، القصير، وهي بلدة يسكنها 30 ألف نسمة تقع إلى الجنوب من مدينة حمص، تعرضت لقصف شديد من قبل قوات النظام في نيسان/ أبريل، وأيار/ مايو 2013، قبل أن يتم إطلاق الهجوم الأخير مع قبل ميليشيا (حزب الله) في حزيران/ يونيو 2013.
هذا التكتيك كان -بلا شك- مستلهَمًا من خطط المستشارين العسكريين الروس الموجودين في سورية منذ عام 2012، حيث تقوم القوات الحكومية، مدعومةً بالميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية وغيرها من القوات الرديفة، بالدخول إلى المدينة، حتى تتم استعادتها والسيطرة عليها، بعد أن تكون قد أُفرغت من سكانها ومجموعاتها من المقاتلين بالترحيل، كما في وادي بردى، وداريا، وتل منين، ومضايا، وخان الشيح، عام 2016، ومدن الغوطة الشرقية عام 2018. وعلى سبيل المثال، أيضًا، بلدة الشيخ مسكين في محافظة درعا الجنوبية، أو ربيعة في محافظة اللاذقية، التي تمت استعادتها في كانون الثاني/ يناير 2016.
تم قصف المدن الواقعة إلى الشمال من مدينة حلب، خلال الأسبوع الأول من شباط/ فبراير 2016، بنحو ألف غارة جوية روسية. بعد ذلك، استولى عليها جيش النظام، ما أدى إلى إحكام الحصار والسيطرة على المناطق الشرقية من حلب، لتبدأ حملة تدميرها وإفراغ سكانها والسيطرة عليها تدريجيًا.
تدمير المدن كسلاح حرب
يجب فهم الجغرافيا الفريدة للدمار في سورية، على الفور في ضوء طبيعة الصراع السوري والقمع وعدم التساوي بين القوى المتورطة في النزاع، وعلى وجه الخصوص القدرات البالستية والجوية لقوات النظام التي لا تمتلكها المعارضة المسلحة، فالنظام فقط هو الذي يتحكم في سماء البلاد، التي يتم من خلالها تدمير معظم تلك المدن.
حجم الدمار المادي الذي تعاني منه المدن السورية يثير مسألة موقف سكان المنطقة من الصراع. ففي الواقع، يمنع القانون الدولي الإنساني استهداف (الأهداف المدنية) في غياب أي أهداف عسكرية محددة بوضوح وبدقة. وإذا تم استهداف أي من الأهداف المدنية، فذلك يشكل جريمة حرب. ويشير التصنيف السريع للدمار في سورية إلى أن هذا هو أحد الأسلحة التي تستخدمها قوات النظام في الحرب.
على خطوط التماس
تقع المواجهات المسلحة بين جماعات المعارضة وقوات النظام بشكل رئيس في البيئات الحضرية. وتخضع الخطوط الأمامية، كما هو معتاد، لدمار كبير. ففي دمشق، تُشكل منطقة جوبر، التي احتفظت بها المعارضة المسلحة حتى 2018، والأحياء المركزية للمدينة التي لديها تضاريس مميزة لهذا النوع من التدمير، حدًّا فاصلًا يُمثل نقاط التماس الفاصلة بين القوى المتحاربة، إضافة إلى ذلك يرتبط بعض الدمار بمتطلبات القتال: كما هو الحال مع محيط المباني الاستراتيجية، أو المواقع العسكرية التي تم تجريفها عن الأرض من أجل تأمينها. هذا النوع من التدمير، الذي يبرره وجود هدف عسكري محدد ودقيق، لا يشكل جريمة حرب.
التدمير كأداة للإرهاب
ينشأ التدمير أيضًا من حملات تتم في سياقات لا ترتبط مباشرة بالعمليات العسكرية. وتشمل هذه الاستراتيجية حملات القصف التي أجريت باستخدام ثلاثة أنواع من الأسلحة هي:
- صواريخ سكود متنوعة، أغلبها طويلة المدى.
- صواريخ جوية أطلقتها القوات الجوية التابعة للنظام (منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2015 تقوم القوى الجوية الروسية بشكل رئيس بتنفيذ تلك الغارات).
- مقذوفات جوية من براميل مليئة بشظايا معدنية ومتفجرات (ما يصل إلى 900 كيلوغرام من مادة تي. إن. تي) من طائرات الهليكوبتر التابعة للنظام. هذه البراميل هي سلاح غير تقليدي يستخدمه النظام على نحو متكرر، وهذه الحملات تولد دمارًا واسع النطاق في المناطق الحضرية، ولها خصائص مكانية ملحوظة أهمها:
- معظم الدمار يحدث بعيدًا عن الخطوط الأمامية.
- آثار التفجيرات متعددة للغاية، حيث يمتد الانفجار على رقعة واسعة حول مكان سقوط البرميل المتفجر.
- تتأثر فقط المناطق السكنية التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة بهذا النوع من القصف، لأن سقوط البرميل المتفجر يتمركز في نقاط تتوسط المناطق المأهولة التي تسيطر عليها المعارضة. وهنالك العديد من الأمثلة على هذا النوع من الدمار في سورية.
الخصائص الثلاثية لهذا النوع من التدمير هي تدمير مناطق سكنية كبيرة بعيدة عن الخطوط الأمامية للمواجهة، دون أي هدف عسكري واضح، لكن تلك المناطق التي تحتفظ بها جماعات المعارضة المسلحة وتسيطر عليها، إذ تثير مسألة مكانها تكتيكات الحرب للنظام.
قد يكون الهدف هو تأليب السكان المحليين ضد جماعات المعارضة المحلية، أو عقابًا على دعمهم لمثل هذه الجماعات (بذريعة الحاضنة الشعبية). وقد يكون بمنزلة تحذير للسكان الموجودين في المناطق التي هي تحت سيطرة النظام، التي قد تميل إلى التمرد، أيًا كانت الحالة.
تدعم هذه الحملات التشخيص بأن ما يحدث هو قصف (عشوائي) على السكان، وهو تكتيك عسكري غير قانوني بموجب القانون الدولي الإنساني. ومن هذا المنظور، فإن التدمير الحضري المدني ليس مجرد أحد عواقب النزاع المسلح، بل هو قبل كل شيء سلاح في أيدي القوات الحكومية.
من هذا المنظور، فإن دوامة العنف تفيد النظام فقط، وبالتالي فإن الدمار الحضري هو جزء من منطق بقاء متناقض لهذا النظام نفسه. وعلاوة على ذلك، فإنه يفسر الثمن الباهظ الذي يدفعه السكان المدنيون: فأكثر من 90 بالمئة من وفيات الأطفال والجروح التي يعاني منها الأطفال تنجم عن الغارات الجوية. كما تؤدي إلى موجات هائلة من النزوح، من خلال جعل الحياة مستحيلة لهؤلاء السكان.