أسئلة مهمة تلحّ عليّ، حينما أباشر كتابة القصة القصيرة:
ماذا سأقول؟ وماذا سأقدّم للقارئ؟ وما الفائدة من إشغال وقت المتلقي دون أن أقدّم له شيئًا ما يحفزه إلى الكتابة، إذا كان من هواة الكتابة، أو يدهشه، أو يثير فيه تساؤلًا ما، احتجاجًا ما يحرك الماء في محيطه الراكد. معتقدًا أن الكلمة مسؤولية كبيرة، ولا شيء أثقل من الكلمة حين تثقل، ولا شيء أخف وأعذب منها حين تعذب.
إن البحث عن مقولة القصة يؤرقني أكثر بكثير من صياغة هذه المقولة بقالب أدبي؛ لإيماني أن هذه المقولة هي الروح، وأن الصياغة هي الجسد، ولا خير في جسد لا تُنفخ فيه الروح، فالروح خالدة والجسد فان.
ربما عارضني بعض من الأصدقاء، لاعتقادهم أن الشغل على الصياغة الفنية هو الأهم، وهو الأجدر باهتمام المبدع، وهو الأمثل لإنجاز نص إبداعي حداثي. وربما قادوني من يدي لأمثل أمام شيخنا أبي عثمان الجاحظ، حينما كانت المعاني تتحرش به، وتدني له قطوفها، وهو لا يلقي إليها بالًا، مارًا بها يجرّ الذيل تيهًا، ويتجاوزها إلى حيث ابن منظور والفيروزأبادي وأبي الأسود الدؤلي.
وكي لا يُفهم من كلامي أنني ضد الحداثة؛ فإنني أومن إيمانًا قاطعًا بأن اللغة هي الحامل الأساس للعمل الإبداعي، وأنّ طرح الفكرة المجردة من لبوسها الفني إنما هو عبث لا يقل أبدًا في عبثيته عن عبثية من يجعلون اللغة هاجسهم (قد نكون أمام نص جميل في شكله، لكن ما إن نضعه في الخضّاضة حتى نفاجأ باللبن المخيض خاليًا من الزبدة)، متناسين أن عليهم أن يقولوا شيئًا أو فليصمتوا.
ويتملكني العجب من هؤلاء الذين لا يثير حفيظتهم شيء، كما يثير حفيظتهم مجرد سماع كلمة وطن في قصة ما، وما تستجرّه كلمة وطن من مفردات التخلف والفساد والقمع والتسلط والمحسوبية والرشاوى والانبطاح والاستزلام والانتهاز والإثراء غير المشروع وغسيل الأموال، وغير ذلك من مظاهر نعيشها يوميًا، حتى غدت جزءًا من مفردات حياتنا اليومية؛ نحن الذين ندبنا أنفسنا طوعًا واختيارًا؛ ونحن بكامل أهليتنا المعتبرة شرعًا وقانونًا، لنكون ضمير الأمة الحي ووجدانها اليقظ. ولا زلت أذكر أن أحد الأصدقاء قال لي حينما امتدحت له عملًا لأحد الأدباء المرموقين: “لقد قرأت الصفحة الأولى من هذا العمل، وحينما رأيت كلمة فلسطين رميت العمل جانبًا”. هكذا ألغى صديقي هذا العمل لمجرد ذكر كلمة فلسطين، مع أن صاحب العمل فلسطيني. فماذا عسى أن نطلب من هذا الفلسطيني أن يكتب خارج الهم الفلسطيني؟
وكي أدلل على أهمية مقولة النص، فإن الكثير من الأعمال التي حققت نجاحًا منقطع النظير على الساحة الثقافية العربية إنما حققت نجاحها لمقولتها الفكرية، مع أنها جاءت بأسلوب سردي تقليدي جدًا، والمثال على ذلك رواية (عمارة يعقوبيان) للمصري علاء الأسواني التي طبعت تسع طبعات في أقل من أربع سنوات.
وعودًا على بدء؛ فحين أنجز هذا الهم الثقيل -همّ مقولة القصة- في ملمحه العام أتنفس الصعداء؛ لكأني قاربت أن أخرج الزير من البير. وكثيرًا ما ألتقط مقولات قصصي، وأنا في وضع لا يؤهلني للكتابة، كأن أكون في جلسة مع أصدقاء، أو راكبًا في سرفيس، أو سائرًا في شارع؛ لذلك أبادر إلى تدوينها في دفتر صغير، أو في ورقة، وربما على كف يدي، ممسكًا بناصيتها كي لا تفلت مني. فإذا جلست للكتابة؛ أخذت أفصّل الثياب لتلك المقولة التي اصطدتها، بدءًا من السروال الداخلي وانتهاءً بالمعطف.
وهنا يشغلني أكثر ما يشغلني مسألة المقاسات، أشفق أن تأتي هذه الملبوسات فضفاضة أو ضيقة، ومخافة أن أعمل فيها تضييقًا أو توسيعًا، أعيد مقايستها مرات ومرات. كما تشغلني ألوانها، وموديل تفصيلها بما يتناسب مع طبيعة الحدث وواقع الشخصيات، آخذًا في الاعتبار أسلم الطرق التي تمكنني من إنجاز نص إبداعي ينتمي إليّ ابنًا شرعيًا، قوامه مجموعة من العناصر التي تؤهله كي يحمل توقيعي. عند ذلك أطرحه للتداول وأنا مطمئن أنه سيدافع عن وجوده دون الحاجة إلي.