أدب وفنون

كِش رئيس

تعلمتُ الشطرنج في فوج كشافة إدلب، وليس في طلائع الأب الأبدي القائد: حافظ الوحش المُلقب بالأسد!

صرنا نلعب الشطرنج حتى تحت اللمبات الشاحبة في حارتنا، ولمّا كبرنا صرنا نلعبه على الهاتف، أتصلُ بخالتي في استعلامات المقسم اليدوي، تهربًا من تضخم الفاتورة ومن غضب والدي، أقول لها: خالتي.. قولي لمجد، حركت الفيل الأبيض إلى (إف 5). ويتصل مجد بها: وأنا حركت الوزير الأسود إلى (بي 7).

ثم أخذتني هوايات أخرى، لعبتُ كرة القدم ككلّ المراهقين، سجّلت في مركز الفنون الجميلة، ثم اكتشفت أني لن أصير مثل بيكاسو وفاتح المدرس، وكان المسرح المدرسي قد أوقعني في عشق الوقوف على الخشبة، ومع ذلك بقي الشطرنج أحد أفضل هواياتي، مع قناعة راسخة بأني لن أصير يومًا مثل كاسباروف.

صرت ألعب الشطرنج على أول كومبيوتر اشتريته بالتقسيط؛ أنزلتُ برنامج لعبة الشطرنج مُقرصنًا في وادي السيلكون بحلب: “دكاكين شارع إسكندرون” ما يوازي دكاكين “حيّ البَحصة” في دمشق؛ صرتُ أختار لاعبًا من بين أول مئة لاعبٍ على مستوى العالم؛ ليس لأتغلب عليه، وإنما لأعرف كيف خسرت أمامه، ولماذا.

لو أن الجماعة المُسمّاة من قبل دول أصدقاء سورية الأعداء: معارضة، تلعب الشطرنج حقًا؛ لعرفت أين أخفقت في كلّ جولاتها!

وخلال خدمتي الإلزامية في كلية الدفاع الجوي في حمص؛ شاهدني المساعد أول أحلّ مسألة شطرنجيّة في إحدى المجلات، فوضعني في المناوبة الليلية مع رئيس الكلية؛ وكان عميدًا ركنًا، ثم أخذني إليه قائلًا: سيادة العميد ينتظرك لتلعب معه.

أضاف همسًا: أوعا.. تغلبه.

فضحكت: وماذا لو غلبته.. يسجنني في تدمر!

ابتلع المساعد أول ابتسامته: يطق.. تجيه جلطة. ثم استدرك: لا سمح الله.. خيرنا من أكتافه.

بدت الجولة وكأنها لن تنتهي.. كان بطيئًا في نقلاته إلى درجةٍ تذكرت فيها كلّ المُعلّقات العشر فأنشدتها في داخلي وأنا أدخن بشراهة، وحين قام بحركة غير محسوبة؛ قمتُ وأنا أقول: سأفتح الباب.. المكتب خَنّق.

ثم عدتُ ولم أجلس؛ حرّكت الحصان قائلًا: كش عميد.

حدّق في الرُقعة مشدوهًا، ثم حدّق في عينيّ وهو يحبس غيظه؛ كأنما تذكر كيف وصلت “إسرائيل” ذات تشرين إلى “سعسع” عند مشارف دمشق.

ولتفادي أيّ مُضاعفات خرجتُ من مكتبه؛ ثم جاءني المساعد أول: سيادة العميد يُريدك. وأخذ يشرح لي:

يُريد أن يعرف أي خُطةٍ طبّقتها، لتغلبه.

قلت: سيادة العميد، لم تكن هناك خطة، تنازلت لك عن القطع البيضاء لتبدأ، وانتظرتُ طويلًا أولَ وآخر خطأ ترتكبه. ثم أشرت بإصبعي إلى موقع خطئه، فهزّ رأسه لكنه قال:

في المرّة القادمة، لا تقل “كِش عميد” لأني سأسجنك.

نهضتُ فسألني: هل درست الرياضيات؟

أجبته: الأدب العربي.

فابتسم كأنه قد وجد ضالته:

تذكرت.. قال لي المساعد إنك كاتب وصحفي.

هززتُ رأسي، فأضاف مُبتسمًا: أنا أكتب الشعر أحيانًا.

مدّ يده وفتح درجًا في طاولته، ثم ناولني رزمة أوراق: هذه مخطوطة ديواني الشعري.. شوفها إذا كانت تصلح لأكون عضوًا في اتحاد الكتاب؟

قلت في نفسي: اكتملت المُعلّقات.. صارت أحد عشر كوكبًا.

بينما كان يقول للمساعد: أعطه إجازة 15 يومًا، ليقرأ الديوان على راحته.

ثم استدار نحوي: لن أنسى خسارتي هذه، انصرف قبل أن أغيّر رأيي وأسجنك.

طوال إجازتي الطويلة هذه، أنجزتُ دراسة مُقارنة عن ديوانه؛ أسهبت فيها عن كيفية إعادة إنتاجِ الموضوعات ذاتِهَا في الشعر التقليدي مُدعمةً بالأمثلة من شعر عصر الانحطاط، كنت وقتئذ أحفظ كثيرًا من الشعر القديم والحديث، ثم غربلَته ذاكرتي مع مرور الأيام، فأبقت على المُضيء منه.

وحين عُدت، أعطيت دراستي للمساعد أول؛ فعاد إليّ بإجازة مثلها، وهو يقول: بوجهك على باب الكليّة، قبل أن يُغيّر رأيه ويسجنك.

وبينما كنت أهمّ بتطبيق المثل الشعبي: “على حبّ النبي.. إخلي”، أردف المساعد أول مُتعاطفًا: ما تطلع من الباب الرئيسي.. اطلع من عند الكتيبة التانية.. أحسن!

لم يعد العميد الركن بعد ذلك يلعب معي الشطرنج، ولا يأخذ رأيي في ما يكتبه من قصائد؛ صارحني المساعد أول: شاعر وصحفي خدما هنا قبلك، قالا إن قصائده رائعة.

همست له ضاحكًا: انتهازيان، يقولان هذا من أجل إجازة 15 يوم.

ضحك المساعد: أنت أخدت إجازتين!

بعد شهور، التقيت مُصادفةً العميد الركن يتمشّى ببيجامته الأديداس قريبًا من كتيبة صواريخ (سام 5) خلال مناوبته: احترامي سيدي.

فأشار إلي لأتمشى معه، مُشيرًا إلى قاعدة الصواريخ: خرجت من الخدمة.. لم يبق سوى كتيبة (السام 6) تحمي الكليّة.

وكنت في مشوار سابق قد اكتشفت أن مؤشر الأكسجين في أغلب منصّات الإطلاق أقلّ بكثير ممّا يحتاج إليه صاروخٌ بوقود صلب لينطلق بسرعة؛ والضباط مشغولون عن التصدّي للأعداء بشفط المتة والهدايا والأموال مقابل إجازةٍ لمجند، ثم يسألون: من اشتغل بالبلاط، أو بالدِهَان.. فيأخذون المُجنّد ليخدم العلَم في فيلاتهم القروية التي بنوها من عوائد الصمود والتصدي!

أشرتُ إلى إحدى المنصّات، وأنا أقول للعميد: وهذه –أيضًا- لن تحمي الكليّة من الطائرات المُعادية.

طقّ عقله.. كما يُقال؛ وفي اليوم التالي أعلن عن مشروع تكتيكي تنتقل فيه كتائب حماية الكليّة بالتوالي إلى بادية حمص، بكلّ عتادها لاختبار الجاهزيّة.

هكذا؛ أخفقت ثلاثة صواريخ من أصل ثلاثة، تلو اثنين من ثلاثة، في إصابة بالونٍ حراري كبير، وارتفع تقرير إلى القيادة بنجاح المشروع وبدقة الإصابة.

بعد ذلك بسنواتٍ، اجتاحت أميركا العراق؛ وذهب المساعد أول بمهمةٍ خارجيةٍ مدفوعة الثمن خليجيًا إلى “حفر الباطن”، بتوصيةٍ من العميد الركن الذي ترفّع إلى رتبة لواء، وصار عضوًا في اتحاد الكتاب العرب!

لو كان بثار الأثد قد لعب الشطرنج مع السوريين؛ بدلًا من قصفه لهم؛ لكانوا أيضًا قد هتفوا:

كِش يا ريِّس، لا أنت كويّس، ولا كان أبوك كويّس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق