أبحاث ودراساتسلايدر

استراتيجية (التطهير الديموغرافي) لدى النظام السوري

11.5 مليون مدني من بين 21 مليون سوري اضطروا إلى مغادرة منازلهم

يستمر الصراع الدائر في سورية منذ سنوات في تغيير التوازن الديموغرافي بصورة عميقة، كنتيجة للمعارك. حدث ذلك مع تقدم (الدولة الإسلامية)، وفي أوقات حصار المناطق الثائرة، وانتقال السيطرة عليها، وفي فترات التفجيرات العشوائية والتدمير، هنا وهناك.

وحسب الأرقام: من بين 21 مليون نسمة من سكان سورية في عام 2011، يُقدّر أن 11.5 مليون شخص على الأقل اضطروا إلى مغادرة منازلهم. وبالتالي فإن نزوح السكان لا يحدث على نطاق واسع فحسب، بل إنه شديد للغاية من حيث نطاقه الزمني. ووفقًا للجنة حقوق الإنسان، فإن 4.8 مليون سوري لجؤوا إلى الخارج، وبخاصة إلى دول الجوار (تركيا، لبنان، الأردن، العراق)[1]. كما يجب إضافة 900 ألف سوري قدموا طلبًا للجوء في الدول الأوروبية منذ 2011[2]، وعشرات الآلاف الذين تستضيفهم دول أخرى. ومع ذلك، فإن عددًا كبيرًا من السوريين غير مسجلين، أو لم يقدموا طلبًا للجوء، وقد يكون الرقم أعلى من مليون شخص وفقًا لبعض التقديرات. ونتيجة لذلك، تراجع عدد السكان السوريين في الداخل السوري بشكل كبير، ليس فقط بسبب وفاة ما لا يقل عن 1 بالمئة من سكانها، بل عن طريق النفي القسري.

لقد تضررت التجمعات البشرية في سورية بشكل أكبر من إمكانية تقدير عدد الوحدات السكنية بالنسبة إلى الأشخاص الذين لجؤوا إلى الخارج فقط، ويجب أن نضيف إليهم عدد الأفراد الذين نزحوا داخل البلاد، وهم حوالي 6.5 مليون شخص، حيث نلاحظ ثلاثة أنواع من حالات النزوح السكاني:

  • مناطق مجاورة، داخل منطقة واحدة، أو منطقة واحدة يسيطر عليها أحد أطراف النزاع.
  • النزوح نحو مناطق أو أقاليم أخرى، وقد تكون أو لا تكون محتجزة من قبل أطراف أخرى في النزاع.
  • النزوح نحو خارج البلاد (اللاجئين).

تعتبر هذه الحالات الثلاث الرئيسية لحالات النزوح التي تدل على الخصائص المحلية لكل محافظة أو هيئة إقليمية (والتي قد تكون اختلفت كذلك منذ عام 2011). على سبيل المثال، فإن محافظة حلب[3]، التي كانت الأكثر كثافة سكانيًا عام 2011، وهي تنقسم الآن بين جماعات المعارضة المختلفة من الأكراد، و(الجيش الحر)، والإسلاميين، وقوات النظام، وفي الوقت عينه تشهد معظم المغادرين نحو المحافظات الأخرى، أو في الخارج، وتستقبل أكبر عدد من النازحين من داخل البلاد.

وعمومًا، فإن المناطق التي تستقبل أكثر النازحين من داخل البلاد هي المناطق المحمية من التفجيرات والاشتباكات والآمنة نسبيًا، أي تلك التي تحتفظ بها الحكومة. ونتيجة لذلك، حتى لو عانت المناطق الحكومية من العديد من المغادرين، فإن سكانها يظلون مستقرين نسبيًا، بل إنهم يزدادون في بعض الأحيان، كما هو الحال في محافظة طرطوس، نتيجة وصول اللاجئين الداخليين إليها. في حين تتأثر المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بشكل أكبر بالتراجع الديموغرافي، فهم يستقبلون النازحين من داخل البلاد، ممن يهربون من القتال والتفجيرات، لكن تدفق السكان نحو مناطق أخرى، أو نحو الحدود، هو السائد. ويمكن تفسير ذلك بعدد الوفيات، وحملات القصف.

أما على المستوى المحلي، فتختلف الأوضاع اختلافًا كبيرًا حسب السياق. فالمناطق الكاملة (غير المدمرة)، والمناطق الفارغة، أو المفرغة، في كثير من الأحيان، تجاور بعضها بعضًا. هذا هو الحال في المناطق التي كانت محاصرة: فقد انخفض عدد سكان منطقة مخيم اليرموك الفلسطيني، في المنطقة الجنوبية الشرقية من دمشق، على سبيل المثال، من 150 ألفًا إلى حوالي 18 ألف نسمة. وفي حلب، تم إخلاء المناطق الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة وتعرضت للغارات الجوية من سكانها: في صيف عام 2014، كان هناك ما يقدر بحوالي 300 ألف شخص استمروا يعيشون في هذه المناطق الشرقية، مقابل مليون قبل اندلاع النزاع.

التدمير والتشرد.. واستراتيجية (الجوع أو الخضوع)

يعكس حجم النزوح السكاني في سورية حجم الدمار في البنية التحتية والمنشآت المدنية، على الرغم من أنه لا يمكن الخلط الكامل بينها لثلاثة أسباب رئيسية:

فمن ناحية، لا يمثل مصير اللاجئين السوريين مصدر قلق لنظام دمشق، قد نعتقد أن الصعوبات غير المسبوقة التي أوجدتها هذه الحالة الاستثنائية بالنسبة إلى البلدان غير المؤاتية للنظام المذكور، سواءٌ بين جيرانها المباشرين أو في أوروبا، حيث شكلت طريقة لخلق المشاكل على الساحة الدولية والإقليمية، واستعمالها كأوراق رابحة أخرى للضغط على المجتمع الدولي.

إن إهمال دمشق المتعمد، في ما يتعلق بمصير سكانها، يتضح أيضًا من الرقابة التي يمارسها النظام على وصول المساعدات الإنسانية إلى السكان داخل الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة السورية؛ ما يعني أنه لا يقتصر الأمر على استخدام سلاح التجويع في حالات الحصار فحسب، ولكن النظام يعمل من خلال الحد من توزيع هذه المساعدات ليحقق السيطرة الفعلية على مجموعات سكانية مختارة قد حوّلها فعليًا إلى أداة سياسية، يلوح بها بيده في أي وقت أو يقايضها حول متطلبات تعينه في حربه. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أي إمداد بالمساعدات الإنسانية لن يمر إلا عبر دوائر مرخصة من قبل النظام، وهذا ما يفسر سبب كون الشبكات الإنسانية السورية المستقلة تعمل بسرية تامة.

من ناحية أخرى، فإن تأثير التفجيرات على سكان الأراضي الخاضعة لسيطرة المعارضة، التي تتسبب في الوفيات والجرحى والدمار الهائل للمباني السكنية والخدمية، تؤدي إلى اكتئاب سكاني وإحباط عام. وبالتالي؛ فإن استهداف السكان المدنيين يغذي إضعاف خصوم النظام، الذي يدعم الاستراتيجية المعلنة أي استراتيجية (الجوع أو الخضوع) التي تم تنفيذها في حالات الحصار منذ نهاية عام 2012. ومن هذا المنظور، فإن تدمير منطقة وإفراغها من سكانها هو سلاح استراتيجي للنظام في النزاع (آخرها ترحيل أهالي وأبناء الغوطة الشرقية والمنطقة الجنوبية في دمشق إلى الشمال السوري). حيث تعتبر التكلفة التي يتكبدها النظام هامشية مقارنة بهدف الاسترداد وبقاء نظام بشار الأسد.

أخيرًا، قد نسأل أنفسنا ما هو الدور الذي يلعبه النزوح السكاني نحو المناطق التي تهيمن عليها القوى الحكومية في توطيد “سورية مفيدة”، التي تعتبر سيطرتها حيوية لاستمرار بقاء النظام مما يتيح للنظام الادعاء أنه يتمتع بشرعية سياسية أقوى، بفرض حقيقة أن المحافظات التي يسيطر عليها تستضيف نسبة أكبر من السكان السوريين، في حين أن الأراضي التي يسيطر عليها خصومه ستفرغ من شريان الحياة الديموغرافي بالنسبة إلى معارضيه.

من هذا المنظور، تم تدمير جزء كبير من البلاد، بمناطقها السكنية والتجارية والاقتصادية، وبنيتها التحتية الرئيسية، وخلفت تشردًا واسع النطاق للسكان، ويكمن التحدي الآن في عودة النازحين السوريين داخل البلاد، كما ستكون عودة اللاجئين خارج حدودها أحد التحديات الكبرى لسورية الغد. وستعتمد هذه العودة على الطريقة التي يتم بها حل النزاع أو انتهاء الصراع، ولكن أيضًا على إمكانية إعادة بناء البلد بشكل حقيقي، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، بما يسمى إعادة الإعمار التي تحتاج، من أجل أن تكون مستدامة، إلى تأسيس حل سياسي حقيقي، لا إلى مجرد وقف عسكري لإطلاق النار.

مساحة وطنية مجزأة

كان الفضاء الوطني السوري مجزأ إلى عدة مناطق، تحت سيطرة العديد من اللاعبين العسكريين، سواء كان النظام أو المعارضة المسلحة أو حلفاؤهما، إضافةً إليهما الأراضي الخاضعة لسيطرة (الدولة الإسلامية/ داعش) التي تضاءلت بشدة.

ومع ذلك، فإن الخطوط الأمامية التي تفصل بين هذه المناطق تتغير بمرور الوقت وتبعًا لأهميتها. حيث كانت تشكل بعض المناطق عمقًا استراتيجيًا، وتنتقل السيطرة فيها من طرف إلى آخر تبعًا للعمليات العسكرية وأهمية المنطقة، في كل مرحلة من مراحل الصراع، ففي مدينة مثل معرة النعمان الواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة إدلب، وكانت تضم نحو 90،000 شخص في عام 2011، انتقلت من أيدي المعارضة المسلحة إلى أتباع النظام، بعد حملة قصف مكثفة في أيار 2012، ليتم تقسيمها قبل أن تستعيدها المعارضة في نهاية عام 2014، حيث فرض موقعها الاستراتيجي على الطريق السريع المؤدي إلى حلب، وقربها من اثنتين من القواعد العسكرية للنظام، وقوع العديد من عمليات القصف والانفجارات والعمليات العسكرية من مختلف الأطراف للسيطرة عليها.

في وقت مبكر من عام 2013، أحصت المنظمات غير الحكومية المحلية كمنظمة (بسمة أمل) أن 850 شخصًا قد قتلوا هناك ودُمر 2000 منزل على الأقل، فضلًا عن 20 مدرسة و 15 مسجدًا، وفي 15 شباط/ فبراير 2016 تم تدمير مستشفى تدعمه منظمة (أطباء بلا حدود) هناك.

محليًا، يمكن أن تكون الانقسامات مسامية، حيث تستمر بعض دوائر الدولة السورية في العمل، على الرغم من وجودها في مناطق خارج سيطرتها، مثل دفع مرتبات الموظفين المدنيين والمعاشات التقاعدية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة. إن استمرار إمداد المناطق القابعة خارج سيطرة النظام بالخدمات الأساسية من كهرباء وماء، ناتجٌ من ترابط الشبكات المحلية، حيث تفتقد بعض المناطق التي لا زالت تحت سيطرة النظام خدمات معينة أصبحت خارج سيطرة الدولة السورية، ما أدى إلى ظهور نظام تبادلي للخدمات بين طرفي النزاع، التي تعتمد على البنى التحتية الوطنية المنظمة في نطاق المحافظات السورية كافة، هي في المقام الأول موضوع الاتفاقات بين النظام وجماعات المعارضة، أو حتى بين النظام والإسلاميين. إضافة إلى ذلك، فإن اقتصاد الحرب نشط للغاية، من حيث توفير كل ما هو مفقود.

حيث تنظم شبكاتها التداول بين المناطق، والتكيف مع التجزئة المكانية واستخدامها لتوليد الأرباح. وهكذا، فالأشخاص الذين يهربون من الحرب يستولون على السوق في مناطق محاصرة، ويتفاوضون على أسعار مربحة لنقل البضائع من منطقة إلى أخرى. مثل نقطة التفتيش الوحيدة التي كانت تتيح الوصول إلى الغوطة الشرقية، وهي ضاحية دمشق التي كانت تحتفظ بها المعارضة المسلحة حتى نيسان/ أبريل 2018، وكانت تُسمى حاجز “المليون” أي مليون ليرة سورية من الرسوم المفروضة على البضائع المنقولة من أحد الطرفين إلى الطرف الآخر.

وأخيرًا، يساهم عبور الخطوط المدنية أو العسكرية في الحفاظ على مسامية معينة بين المناطق. ومع ذلك، تصبح التبادلات والاتفاقات هذه محدودةً بشكل أكبر مع تعمق الصراع.

كما أن تفتيت الأراضي السورية يتفاقم بسبب تدمير نسيجها الحضري. وهذا يخلق جغرافيا فريدة: هي أساسًا مناطق تحتفظ بها المعارضة المسلحة، وتتأثر بالتدمير واسع النطاق. وينبغي فهم هذا التدمير على أنه يعني في الوقت نفسه تدمير مساحات كبيرة، وإحداث درجة عالية من الضرر، أو حتى التدمير الكامل للمباني.

حيث توضح بيانات الشهود والصور الفوتوغرافية والأفلام وصور الأقمار الصناعية حقول الأنقاض، على سبيل المثال، لمدينة تلبيسة الواقعة إلى الشمال من مدينة حمص، والمناطق الشرقية من مدينة حلب، وعدد من أحياء مدينة حمص، مثل بابا عمرو والخالدية والإنشاءات في حمص، أو بعض المدن ذات الحجم الأوسع والكثافة الأعلى في دمشق، مثل داريا والمعضمية وجوبر ودوما ومخيم اليرموك والحجر الأسود.

أما المناطق الخاضعة للسيطرة الحكومية، فلم تتأثر بأي تدمير واضح المعالم، فعلى سبيل المثال:

  • المناطق التي لم تتعرض لأي عملية تدمير مثل مدينة طرطوس الساحلية وهي تبعد كثيرًا عن مناطق القتال.
  • المناطق التي تعرضت لتدمير محدود جدًا، كما هو الحال في المناطق التي ما زالت تحت سيطرة النظام والقوات الحكومية والواقعة في مناطق التماس أو الاشتباك، حيث نتج تدمير بسيط جراء إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون أو بعض التفجيرات المحدودة من قبل جماعات المعارضة، كما هو الحال في المناطق المركزية في دمشق[4]، التي لم تؤثر بشكل كبير على النسيج الحضري لهذه المناطق.

وأخيرًا ، يجب أن نلاحظ أن هذه الجغرافيا تتغير باستمرار؛ حيث تعرضت المناطق التي كانت تحتفظ بها المعارضة للقصف والتدمير في نقاط معينة خلال الصراع، لتعود لسيطرة النظام السوري، وهو ما يفسر سبب تضمين المناطق الحكومية لبعض البنى التحتية الحضرية والاقتصادية التي دمرت إلى حد كبير، في آذار/ مارس 2016م.

التهجير القسري: مسرع للتجزئة الاجتماعية والمكانية

بشكل عام، لا يعتبر النزوح فريدًا أو أحاديًا أو نهائيًا، فالناس ينتقلون أولًا إلى منطقة مجاورة، من ذات المنطقة، للحصول على المأوى ويستغرقون وقتًا لتقييم إمكانية العودة من عدمها. واعتمادًا على السياق المحلي و الوضع الراهن، يمكن أن يكون النزوح مؤقت ودائري. ومع ذلك في كثير من الأحيان سيواجهون المخاطر الأمنية الجديدة، والقيود الاقتصادية، وضرورة إرسال أطفالهم إلى المدرسة، أو إمكانية الوصول إلى العائلة أو الأصدقاء الذين قد يقدمون لهم مسكنًا مؤقتا أو دائمًا؛ ما يؤدي بالأفراد إلى اتخاذ خطوة أخرى، ثم أخرى وهكذا. إذ يُعتبر اللجوء جزءًا من هذه الحلقة المتواصلة، حيث قام اللاجئون خارج سورية الآن في المتوسط ​​بحوالي ثمانية مرات نزوح داخلي، قبل اتخاذ قرار عبورهم للحدود واللجوء إلى بلد مجاور.

ومع ذلك، فإن القدرة على التحرك من أجل حماية النفس تعتمد على العديد من العوامل: جميع السوريين ليسوا متساوين قبل النزوح. وغالبًا ما يكون وجود الشبكات الاجتماعية عاملًا حاسمًا؛ فالاستضافة من قبل الأصدقاء أو العائلة هي الطريقة الرئيسية التي يجد بها المشردون أماكن الإقامة، وغالبًا ما يكون ذلك شرطًا حيويًا للحصول على الدعم المادي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن إمكانية تمويل حركة تنقل ما، أو عدمها في ظل غياب أي موارد أو دعم، هي أيضًا عوامل حاسمة في حركة السوريين أو عدم حركتهم في هذا النزاع. فبالنسبة إلى الأشخاص النازحين، تعتمد قدرتهم على الاستقرار في مكان واحد، في كثير من الأحيان، على الإمكانات المتاحة لديهم للعثور على نوع من النشاط المدفوع. وعلى النقيض من ذلك، ونتيجة لنقص الموارد يضطر العديد من السوريين إلى الجمود غير المرغوب فيه، سواء أكان ذلك في مكان إقامتهم المعتاد، أم في الاضطرار إلى التنقل المقيَّد بشدة بسبب القضايا الأمنية، فعلى سبيل المثال، عبور الخطوط الفاصلة بين الأراضي التي تحتفظ بها قوات المعارضة أمر صعب، بسبب نقاط التفتيش (كتلك التي كانت تسيطر عليها الدولة الإسلامية حول مدينة دير الزور على سبيل المثال)، أو خطر كبير على الذكور الذين تراوح أعمارهم بين 18 عامًا و50 عامًا والقادرين على القتال أو حمل السلاح والقادمين من المناطق المحتجزة من قبل المعارضة والتعرض للاعتقال، وإجبارهم على القتال من قبل قوات النظام. وفي المقابل تتنقل المرأة بحرية أكبر من الرجل، وهو ما يفسر على وجه الخصوص أعدادها الأكبر في أوساط السكان المشردين. ليرافقهن أطفالهن قبل أن يصلوا إلى مرحلة المراهقة أو سن التجنيد. بالإضافة إلى ذلك، يشكل الانتماء الديني عائقا أمام تنقل الرجال السنة، الذين من المرجح أن يتم القبض عليهم عند نقاط التفتيش التابعة للنظام الذي يضم عددًا أكبر من أعضاء الأقليات الدينية.

وبالتالي؛ فإن النزوح يؤثر في نوعية خيارات السوريين المكانية والاجتماعية والعمرية والطائفية والجنسية، بعبارة أخرى: تعتمد قدرة السوريين على الانتقال للهروب من مخاطر الحرب إلى حد كبير، على شبكاتهم ومواردهم وجنسهم وسنهم ودينهم وأصلهم الجغرافي. كما أن الوصول إلى الأراضي التي يحتفظ بها النظام، والحياة اليومية في هذه المناطق، يخفف على بعض الأفراد والجماعات أكثر من الآخرين الذين يلجؤون إلى مناطق لا تخضع للنظام.

في هذه العملية، يتم فصل العائلات بأكملها عن طريق عمليات الإزالة على المدى الطويل، وتخضع مسارات الأفراد لحالة من عدم اليقين الشديد. بالإضافة إلى ذلك في سورية الفقيرة، تتدهور الظروف المعيشية للمشردين تدهورًا سريعًا، وغالبًا ما تؤدي إلى تطوير سلوك “تعويضي”، هو سمة مميزة لمثل هذه الأزمات: (بيع السلع وسندات الملكية بمبالغ ضئيلة للغاية، محدودية الغذاء، وتنامي تجارة الدعارة والسلاح، وعمالة الأطفال، ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأساسية… الخ.

تكلفة النزاع: مجتمع مُدمّر

قدّرت منظمة الأمم المتحدة، في شهر آذار/ مارس 2016، أن 400 ألف سوري قد قُتلوا خلال الصراع، وهي على الأرجح إحصائية استندت إلى التوثيق وفقًا للتقديرات الأولية، ومن المفترض أن يشكل المدنيون ما بين 50 إلى 70 بالمئة من هؤلاء الضحايا.

وفي آب/ أغسطس 2015، تم الإعلان عن أكثر من 65 ألف شخص في عداد المفقودين. كما تمّ إحصاء أكثر من مليون سوري قد أصيبوا بجروح خطرة أو أنهم أصبحوا معوقين. كما سجلت عشرات أو حتى مئات الآلاف، من الحالات التي تعاني من أمراض مزمنة أو يمكن علاجها بسهولة، قد ماتوا بسبب القيود المفروضة أو المستحيلة في الحصول على العلاج الطبي أو الأدوية.

وقد أُجبر أكثر من نصف السكان الذين يعيشون في سورية في عام 2011 على مغادرة منازلهم. تتمثل الأسباب الأكثر شيوعًا لتفسير هذه المغادرات في التفجيرات والانفجارات في المناطق المأهولة، واستهداف المدنيين و “الأهداف المدنية” (أي الأشياء المادية وغير العسكرية: المباني والمدارس والأسواق والبنية التحتية وغيرها) وحصار المدن. وقد تم مسح مناطق بأكملها على الأرض، وتم تدمير مدن بأكملها. كما تضررت البنى التحتية العامة بشكل خطير، فقد أغلقت مدرسة من أصل أربع مدارس في البلاد، وتم تدمير أكثر من 60 بالمئة من المستشفيات أو تم تشغيلها جزئيًا فقط، وكذلك أكثر من نصف المراكز الصحية والعديد من الطرق والمصانع والمناطق الصناعية والمستودعات والمخابز والأسواق التي أصبحت خارج الخدمة، كما أن ثلث السكان فقط يحصلون الآن على مياه الشرب، بينما يضطر بقية السوريين إلى شراء مياههم في السوق الخاصة أو استخدام الآبار الارتوازية.

على الرغم من الاختلافات الكبيرة بين المناطق، فإن انقطاع الكهرباء أمرٌ شائع في كل مكان، حتى المناطق المركزية في دمشق كانت تتلقى ست ساعات فقط من الكهرباء يوميًا، في كانون الثاني/ يناير 2016.

لقد تقلص الاقتصاد السوري بشدة، حيث يهيمن اقتصاد الحرب الآن على البلاد، بالنسبة إلى معظم شرائح الشعب السوري، ويمكننا أن ندعوه باقتصاد البقاء.

لقد أصبحت الظروف المعيشية هشة للغاية، في حين أن مئات الآلاف الأشخاص قد قُتلوا أو جُرحوا أو أُلقي القبض عليهم أو خُطفوا. على الرغم من وجود حالات مختلفة للغاية من مكان إلى آخر، فإن أكثر من نصف السكان في سن العمل هم عاطلون. والفقر يؤثر على 80 بالمئة من السكان. في حين تمّ تعميم التعليم الابتدائي في سورية في عام 2011، بعد نشوء الصراع لم يعد أكثر من مليوني طفل ومراهق يذهبون إلى المدرسة، وأصبح عدد متزايد منهم مجبرين على العمل لدعم عائلاتهم، ويفتقر شخص واحد من كل ثلاثة أشخاص إلى الطعام الكافي، ويتعين عليه في أحسن الأحوال أن يقلل من حجم ومحتوى وجباته، وفي أسوأ الأحوال قد يضطر إلى تخطي الوجبات تمامًا. والخبز الذي يُغمس في الماء هو في الغالب الوجبة اليومية لعشرات الآلاف من العائلات. وهكذا تقدر المنظمات الدولية أن 13.5 مليون شخص في سورية يحتاجون إلى مساعدات إنسانية.

أخيرًا، العديد من المدنيين محاصرون في مناطق النزاع والاشتباكات والأماكن التي تقبع بالقرب من مناطق سيطرة النظام أو المناطق الداخلية التي تبعد عن حدود الدول المجاورة مثل (ريف حمص الشمالي – غوطة دمشق – وادي بردى – أحياء مدينة حمص المعارضة – الزبداني – شرقي مدينة حلب – داريا – دوما – جوبر – مخيم اليرموك) وغيرها الكثير قبل ترحيل سكانها، خاصة من قبل قوات النظام أو القوات التابعة لها.

حيث تختلف البيانات المتعلقة بهذه الحصارات: فمثلًا خمسة عشر حصارًا تؤثر على 390 ألف شخص، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وأكثر من 640 ألف شخصًا في نحو خمسين موقعًا وفقًا للتقرير الطبي الأميركي السوري، ومليون شخص في 46 موقعًا في مطلع عام 2016، وفقًا لدراسات المنظمات غير الحكومية، وأيضا 1.9 مليون شخص وفقًا لمنظمة (أطباء بلا حدود).

أفادت منظمة (أطباء من أجل حقوق الإنسان)، في تقريرها الأخير وفي إطار تغطية النزاع من آذار/ مارس 2011 حتى نهاية يوليو/ تموز 2016، عن وقوع 400 هجوم على 276 مستشفى ومرفق طبي، ما أسفر عن مقتل 768 من العاملين في مجال الرعاية الصحية. ومن بين الهجمات الـ 400، أفادت المنظمة أن 362 منها على الأقل ارتكبها النظام وحلفاؤه، مما أسفر عن مقتل 713 عاملًا طبيًا على الأقل. يضاف إلى ذلك شهادات من الشعب السوري تشير إلى أنه في المدن المحاصرة من قبل النظام، تم استهداف الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) والأسواق والطوابير أمام المخابز، المساجد في أوقات الصلاة، واستهداف أي تجمع معتاد للمدنيين، وبخاصة أيام الأعياد، عمدًا عن طريق القصف الجوي والبراميل المتفجرة.

كذلك المدارس لم تكن بمنأى عن ذلك الاستهداف؛ ففي أيلول/ سبتمبر  2014 وفي 4 كانون الثاني/ يناير 2017، أفادت منظمة (يونيسف) أن 6000 مدرسة لم تعد صالحة للاستخدام لأغراض التعليم في سورية  وأخيرًا، تم استخدام الجوع كسلاح للحرب، في مدن لم يحاصرها النظام بالكامل.

تسبب النزاع في تشريد ملايين الأشخاص قسرًا، في حين كان يقدر عدد سكان سورية بحوالي 20 مليون نسمة قبل بدء الثورة، يقدر مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين أن هناك 4.8 مليون لاجئ سوري (معظمهم في البلدان المجاورة لسورية) و 8.7 مليون عدد المشردين داخليًا. وبالمقارنة، فإن عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى (أونروا)، وهو يضم جميع اللاجئين من النكبة وذريتهم، يبلغ أكثر بقليل من 5 ملايين. ولدى (يونيسف) 3.7 مليون طفل (أكثر من 800 ألف من اللاجئين) أو واحد من كل ثلاثة أطفال، الذين لم يعرفوا أي شيء سوى الحرب، لأن معظم هؤلاء الأطفال ولدوا بعد اندلاع النزاع.

في الوقت الذي توقفت فيه الأمم المتحدة رسميًا عن نقل أرقام ضحايا النزاع، منذ آب/ أغسطس 2014، قدّم المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية ستيفان دي ميستورا، في نيسان/ أبريل 2016، رقمًا وصل إلى قرابة 400 ألف شخص قُتلوا، وهو رقم يقارب الرقم المعطى في فبراير/ شباط 2016 من قبل (المركز السوري لأبحاث السياسة)، الذي نشر تقريرًا يوضح عدد الضحايا الذين قُتلوا خلال النزاع بـ 470 ألف شخص، من بينهم 70 ألف شخص ماتوا، بسبب عدم حصولهم على الرعاية الصحية اللازمة والطعام والماء، إلخ.

وإذ ينتقد المركز السوري للأبحاث حقيقة أن هؤلاء الضحايا غير المباشرين لا تأخذهم الأمم المتحدة بعين الاعتبار. فإن معركة الأعداد التي قد توجد بين مختلف المراقبين لا تهم (حتى لو كانت دقة العدد والهوية في نهاية المطاف مهمة في الحصول على العدالة والتعويضات): في جميع الحالات فإن هذه الأرقام والمعدلات لها دلالة مخيفة.

يقدر مركز توثيق الانتهاكات في سورية، وفقًا لقاعدة بياناته، أن 90 بالمئة من ضحايا النزاع من المدنيين قُتلوا على يد النظام والميليشيات المتحالفة معه، وهو رقم يرتفع إلى 93.3 بالمئة؛ إذا أضفنا الضحايا المدنيين للضربات الروسية.

قاعدة بيانات مركز توثيق الانتهاكات ليست شاملة، ولكن مرة أخرى، هذا هو الاتجاه العام الذي يجب مراعاته. من خلال التعذيب، وحالات الاغتصاب والإعدام التعسفي، والحصار الذي يجوّع الناس، والقصف الجوي، والهجمات الكيمياوية، وبراميل المتفجرات، كان بشار الأسد مذنبًا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. إن الإنسانية تُنتهك على نطاق واسع ومنظم، بسبب وسائل الدولة السورية الفتاكة وحلفائها من حيث الحجم، وهم روسيا وإيران و(حزب الله).

هوامش:

[1]– الرقم هنا هو عدد الأشخاص المسجلين.

[2]– تم تسجيل جزء من السوريين في طريقهم إلى أوروبا في المنطقة، ولا يوجد إجراء “إلغاء التسجيل”.

[3]– أكبر وحدة إدارية: هناك 14 محافظة في سورية، دخلت جميعها في النزاع الحالي، وهذه التقسيمات الإدارية لا تعني الكثير في ما يتعلق بالواقع على الأرض والانقسامات هناك، لكن البيانات المتوفرة تشير إليها.

[4]– تستخدم مجموعتان فقط قنابل في بيئة حضرية: (جبهة النصرة) و(الدولة الإسلامية).

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق