على مدى السنوات السبع الماضية، يتعرض سكان سورية لقمع شديد على يد نظام ينفذ سياسة التدمير الشامل؛ ما أجبر أكثر من نصف السوريين على ترك ديارهم، وشكّل تهديدًا خطيرًا لمستقبل بلد استُنزفت قواه البشرية نتيجة لخروج معظم سكانه منه، على إثر تدمير مدنهم من خلال القمع الشديد الذي رافق التدمير.
لم تكن هناك أي محاولة لإخفاء هذا الرد العنيف، الذي تضمن على الفور استخدام أجهزة الدولة للعنف والقمع. وقد نتذكر البيان الذي صدر في أيار/ مايو 2011 عن رامي مخلوف، ابن خال الرئيس الأسد، ورئيس إمبراطورية اقتصادية، حصل عليها بفضل سياسات التحرر الاقتصادي خلال العقد الأول من حكم بشار الأسد، الذي صرّح فيه قائلًا: “نحن نعتبرها معركة حتى النهاية”. إذ يُعتبر أحد أباطرة اقتصاد العنف، والعقل المدبر والممول للعنف، بالتعاون مع العديد من الأجهزة الأمنية، وأحد أعمدة النظام السوري.
كانت سورية في عام 2011 دولة حضرية مدنية، حيث إن نحو 75 بالمئة من سكانها البالغ عددهم 21 مليون نسمة يعيشون في قطاع البلدات والمدن التي تتمركز في معظمها من الشمال إلى الجنوب في الجزء الغربي من البلاد، وعلى طول وادي الفرات. فيما يغطي بقية المساحة السورية البادية الشامية (السهوب). أما المدن الكبرى الإقليمية والوطنية والتاريخية (وهي بشكل رئيسي من الشمال إلى الجنوب: حلب، حماة، حمص، ودمشق)، فاستقطبت النمو الحضري، بالتناوب مع نسيج كثيف من المدن المتوسطة الحجم والصغيرة، ولكن معظم أعمال العنف المرتبطة بالنزاع منذ عام 2011 قد تمّ إلحاقها بهذا الجزء الحضري من سورية، حيث سببت هذه الأعمال الوحشية سقوط مزيد من القتلى والجرحى، وتشريد السكان وتدمير منازلهم.
وبالطبع، التدمير جزء أساسي في النزاعات المسلحة. لكن، على الرغم مما أفضى إليه ذلك، فإن العواقب، لا سيما عمليات التشرد الهائلة التي تعدُّ الأكبر حجمًا في العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا تعدُّ مجرد ضرر “ضمني” في النزاع، أو مجرد ضرر طبيعي ناتج عن النزاع، أو أمرًا لا مفرَّ منه، ومؤسف. في الحقيقة، حجم الكارثة السورية، والانهيار السريع للغاية لمجتمع منظم، يقودنا إلى طرح أسئلة حول أشكال العنف التي وقعت في تلك المناطق، وحول الوسائل التي استخدمت لإنجاز هذا التدمير الهائل الذي تسبب في ذلك النزوح الكبير. كما يجب أن نقوم بتحليل المكان الذي شملته عمليات التدمير، لمعرفة أسباب نزوح السكان داخل مناطق الصراع السوري.
حيث نستقرئ عملية تشكل هذه الاستراتيجية واستمرارها، من خلال أسباب ومعطيات عدة:
حرب بلا نهاية
إن الصراع الدائر الذي كان يمزق سورية منذ عام 2011 يلقي ضوءًا قاتمًا على حالة عالمنا، في بداية القرن الحادي والعشرين، ومن المرجح أن أكثر من 400 ألف سوري فقدوا حياتهم، غالبًا في ظروف مروعة خلال الثورة السورية، وشُرّد نصف السكان منهم أكثر من خمسة ملايين شخص في الخارج، بالإضافة إلى المعتقلين والجرحى المصابين بعاهات دائمة، وعددهم بمئات الآلاف، أو أكثر، حيث تم تدمير ثلاثة أرباع النسيج الحضري للمدن السورية والقاعدة الاقتصادية للبلاد، كما أن الفوضى السورية التي تفاقمت بسبب تدخلات إقليمية متعددة، إضافة إلى التشنجات العرقية والطائفية التي كانت بمنزلة منصة مثالية لظهور جهادية معولمة لم يسبق لها مثيل إلى أن تراجعت وانحسرت مؤخرًا، يضاف إليها الموجة الإرهابية التي انتشرت في أوروبا، فضلًا عن أزمة اللاجئين وصعود اليمين الشعبوي الأوروبي الذي يعتبر تدفق اللاجئين تهديدًا للهوية الأوروبية، إضافة إلى التدخل الروسي الذي تبنى استراتيجية الأسد ذاتها، والقائمة على التدمير الوحشي للمدن السورية منذ عام 2015، والذي أضاف بُعدًا شرقيًا غربيًا إلى “اللعبة الكبيرة” الدموية الجديدة في قلب الشرق الأوسط، وظهر التبني الروسي الكامل لاستراتيجية (الأسد أو نحرق البلد) بشكل جلي وواضح في دمار حلب الشرقية عام 2016، واستكماله في مدن الغوطة الشرقية عام 2018، ومخيم اليرموك (معظم سكانه من اللاجئين الفلسطينيين)، والحجر الأسود (معظم سكانه من النازحين السوريين من الجولان عام 1967)، ومخيم حندرات، ومخيم اللاجئين في درعا.
تراجع الدور الأميركي وتردد أوباما بعد هجمات النظام الكيمياوية صيف 2013، في الغوطتين الغربية والشرقية؛ ما أدى إلى تشجيع النظام على استكمال مخططه التدميري، وساهم ذلك في تشجيع حلفائه أيضًا.
ولكن في نيسان/ أبريل 2018، تمت الضربة الثلاثية الأميركية الفرنسية البريطانية ردًا على مجزرة دوما الكيمياوية، التي استهدفت قواعد للنظام، وقبل ذلك بعام، وبالتحديد في 2017، كانت هنالك ضربة أميركية على قاعدة الشعيرات العسكرية التابعة النظام، ردًا على مجزرة خان شيخون الكيمياوية التي ارتكبها النظام. ومع ذلك، فقد كان الرد الدولي خجولًا، مع أنه بداية إعلان حرب بالوكالة عبر ضرب القواعد الإيرانية والروسية في سورية، من خلال غارات الطيران (المجهول). لكنها لم توقف، أو تفرمل، سلوك النظام، أو حلفائه في الاستمرار في استراتيجية التدمير.
شعار “الأسد أو نحرق البلاد”
هذا حرفيًا ما فعلوه، فقد انقلب الرئيس على نفسه بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وانتقل من الدور السلطوي للحداثيين (المقصود هنا المعايير التي أطلقها بشار الأسد حول التطوير والتحديث والشفافية مند تسلمه السلطة عام 2000) إلى توظيف الإجرام الجماعي وتبني استراتيجية تدمير المدن.
لا يبدو أن النظام يمتلك أي نوع من التعاطي سوى القتل والذبح المنهجي للبشر والحجر، وبالتالي غيّر القمع ببساطة أبعاده ليصبح حربًا غير محدودة ضد السكان. ومن الدلائل على ذلك (القصف المنهجي للمستشفيات، على سبيل المثال استهداف سيارات الإسعاف ومتطوعي منظمة الخوذ البيضاء والمباني السكنية). كما فاقم تدخل العرّابين للنظام من إيرانيين وروس من كارثة اللجوء، فضلًا عن قيام النظام بتطعيم التطرف الإسلامي، ودسّه كالسم داخل التمرد والثورة السورية وتطبيقًا لاستراتيجية راسخة منذ بداية الثمانينيات، في استعادة لأسلوب اللعب بشكل كامل على الخريطة الطائفية للبلاد، وصياغة نوع من (الثورة المضادة) الداعشية ضد المعارضة المسلحة للأسد.
مستقبل بشار الأسد.. قضية مركزية
استخدم نظام بشار الأسد كافة أشكال القمع والأسلحة والتدمير، وربط استراتيجية (الأسد أو نحرق البلد) بمستقبل نظامه، وجعله قضية مركزية. واعتمد إضافة إلى ذلك على تكتيك تعزيز الاستيلاء على التمرد من خلال الإرهاب الإسلامي الذي لعب دور تدمير المدن التاريخية أيضًا، مثل تدمر، خلال النزاع، وبالطبع استفاد من الدعم العسكري الفعال لحلفائه الرئيسين (حزب الله اللبناني، وإيران وميليشياتها الشيعية وروسيا).
في ظل هذه الظروف، لا يمكن تحقيق أي استقرار دون الإطاحة برأس النظام بشار الأسد وشركائه الرئيسين الذين تبنوا استراتيجيته، لأنه من المرجح أن النظام بتقديره حاليًا يحتاج إلى استمرار الحرب للحفاظ على نفسه. ومع ذلك، فإن هذه الأسباب حتى عند أولئك الذين يعتبرون إزاحة بشار الأسد استراتيجية، لا غنى عنها، فهو بالمقابل، باستراتيجيته في التدمير، يجعل من العملية صعبة للغاية. فإذا لم يكن هذا الرحيل ناتجًا عن ضغوط خارجية قوية كالضربة الثلاثية (الأميركية والفرنسية والبريطانية) المحدودة في نيسان/ أبريل 2018 ردًا على مجزرة الكيمياوي التي ارتكبها النظام بمدينة دوما، فيمكن أن يكون هذا النظام جزءًا فقط من عملية انتقال يتم التفاوض عليها، وهو أمر معاكس فعليًا لأمن النظام وطبيعته المافيوية.
ما مدى نجاح استراتيجية (الأسد أو نحرق البلد)؟
نجح نظام بشار الأسد في فرض قراءة فريدة للنزاع من خلال عدة عوامل:
1 – إظهار نفسه على أنه حكومة شرعية تواجه تمردًا إسلاميًا متشددًا قادمًا من الخارج. هذا التفسير الثنائي أقل أهمية، لأن النظام يعتمد بشكل متزايد على الميليشيات السورية، أو الأجنبية، ويستفيد من تجزئة مناطق المعارضة على شكل مناطق معزولة وجيوب محاصرة.
2 – اللعب على التوجه الطائفي للصراع، نتيجة لتنوع الديموغرافيا في سورية (72 بالمئة من العرب السنة، 10 بالمئة من العلويين، البقية المكونة من مجتمعات أخرى)، مع تأثير التدخلات الخارجية: التزام قادة “حزب الله” وإيران منذ أوائل عام 2013 في الوقت نفسه بدعم النظام، إضافة إلى فرض كل من (تنظيم الدولة الإسلامية)، وجبهة النصرة (فرع القاعدة السوري) نفسهما على الأرض.
3 – التردد الغربي، والأميركي خصوصًا، في استخدام القوة ضدّ النظام وحلفائه الشيعة، أدى إلى تفاقم ظاهرة الطائفية هذه، وبالفعل فإن التقاعس النسبي للولايات المتحدة كان له أثر كبير في تقوية النظام، من خلال استراتيجيته في محاربة وتدمير المعارضة، الذي كان له أثر في تقوية الحركات الإسلامية. كما دفع انعدام الدعم من الغرب للمعارضة المعتدلة (الجيش الحر) للانضمام إلى الحركات الإسلامية.
4 – قام التدخل الروسي بتبني استراتيجية النظام بالكامل، وضرب مواقع المعارضة على سبيل الأولوية، وإهمال القتال ضد (داعش).
5 – على المستوى الدبلوماسي، تم تشجيع النظام على تعنته، من خلال الدعم المستمر من روسيا (باستخدام حق النقض الفيتو في مجلس الأمن وغيره من المحافل الدولية)، فقد استخدمت روسيا حق النقض الفيتو 12 مرة، بينها 6 مرات تتعلق باستخدام النظام السوري للسلاح الكيمياوي، حتى نيسان/ أبريل 2018.
6 – تراجع المواقف الغربية لصالح دعم المعارضة على مر السنين.