أدب وفنون

اختلال سورية من اختلال العالم

هل يجب علينا، في النظر إلى ما جرى في سورية، والمشرق العربي عمومًا، خلال السنوات الماضية، أن نقلق على مصير بلادنا فحسب، أم نقلق على مصير البشرية، والكرة الأرضية بمجملها؟!

قد تبدو صيغة السؤال غريبة بعض الشيء، لكننا إذا تأمّلنا بعمق مأسوية الحدث السوري، نجده ليس بمعزل عن تلك المتغيرات المتسارعة، التي حدثت منذ مطلع الألفية الجديدة، مع أحداث 11 سبتمبر، ومن ثم غزو أفغانستان، واحتلال العراق وانهياره. إنه جزء كاشف من تلك السياقات، التي تنذر بأسوأ الكوارث التي تهدّد العالم، ما لم تنهض صحوة عالمية جديدة، تضع حدًّا لتلك المخاطر التي باتت فعلًا تهدّد البشرية الماضية نحو حتفها، بصورة عبثية لم يشهدها عالمنا على مدار تاريخه!

ألحّ عليّ ذلك السؤال بحدّة، بعدما فرغت من قراءة كتاب (اختلال العالم – حضاراتنا المتهافتة) للمؤرخ والروائي أمين معلوف، وعلى الرغم من صدور الكتاب في عام 2009، أي قبل أحداث الربيع العربي، والثورة السورية فإن معلوف كان يستقرئ، ويحلّل، ويحاكم جملة من القضايا الإشكالية –بعين الناقد والمؤرخ النزيه– التي يشكّل تفاقمها مظاهر لاختلال العالم اختلالًا فكريًا، وماليًا، ومناخيًا، وجيوسياسيًا، وأخلاقيًا… بالتالي فهو يحذّر، ويدعو إلى استنهاض الضمائر الحيّة، للبحث عن حلول إسعافية قبل فوات الأوان، فالزمن ليس في صالح البشرية، وليس ثمة مكان آخر نلجأ إليه –غير الكرة الأرضية– إذا ما غرق المركب المتهالك الذي نحن على متنه جميعًا، فهو بعد الآن بات هائمًا على وجهه، في بحر هائج، بلا طريق، ولا رؤية، ولا بوصلة.

لا يضمر السؤال، ولا محتوى الكتاب دعوةً لليأس، والقنوط من إمكانية التغيير، وتحويل المسار، لكن المفارقة العجيبة أن ما جرى من تداعيات للربيع العربي، والثورة السورية، مع تكالب قوى الشر، و”الوسخ التاريخي” في الداخل والخارج، لإغلاق الباب أمام حلم شعوب المنطقة بالحرية والكرامة، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، مع صعود الثورات المضادة، ما هو إلّا مثال إضافي، يؤكد هواجس معلوف من “اختلال العالم”، التي حذّر منها، وليس العكس. السبب أن تلك الأحداث كشفت مدى انهيار القيم، وتهافت نظام المجتمع الدولي. صحيح أن البشرية كلّما وصلت إلى مأزق تاريخي، كانت تجد حلولًا للخروج منه، لكن المتغير الجديد للأسف أن العنصر البشري قد بلغ اليوم -بمعنى ما- قصوره الخلقي، وثمة مؤشرات كثيرة على حركة تقهقرية، تنذر بالتنكّر لما جهدت أجيالٌ متعاقبة في العمل على بنائه!

مصدر القلق ليس الخشية من تسارع وتيرة التغيير، التي يتيحها تطور العلم والتكنولوجيا، والطب، والمعلوماتية… إذ من حق كلّ شعوب العالم أن تنعم بثمار الحداثة، بل القلق هو على مصير حركة التنوير، واحترام تنوّع الثقافات، والحريات، واحترام حقوق المرأة، ومعالجة مشكلات المناخ والانبعاث الحراري، والمحافظة على البيئة، وكرامة البشر، التي تشرف على الانطفاء في كل أرجاء المعمورة، بسبب سياسة التوحش، وصعود اليمين العنصري المتطرف، والشعبوي، في كل مكان، إضافةً إلى ازدياد التعصب الديني والإثني، وارتفاع وتيرة العنف والنبذ، والتهميش.. وصراع الهويات….

يستقصي معلوف، بكثير من العمق، فكرة “الانتصارات الكاذبة” التي تبيع الأوهام، فيما العالم يغرق أكثر فأكثر في أزماته المستعصية، فبعد موجة “الأمل” التي اجتاحت العالم بعد سقوط جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة، ساد الاعتقاد أن الباب بات مفتوحًا أمام انتشار الديمقراطية، وحقوق الإنسان، مع إزالة الحواجز بين مختلف بقاع الأرض، إلّا أن أوروبا قد ضيّعت معالم طريقها لحظة انتصارها، وها هي اليوم تتخبط بأزماتها، من دون أن تحسم خياراتها، بين أن تبقى قوةً تكميلية على الصعيد العالمي، أم تتحوّل إلى اتحاد فدرالي، شبيه باتحاد الولايات المتحدة الأميركية، كي تتمتع بمكانة عالمية تسمو وتستوعب وطنية الأمم التي تتألف منها، للاضطلاع بدورها في التوازن الدولي، ليس على الصعيد الاقتصادي والدبلوماسي فحسب، بل السياسي والعسكري أيضًا.

ربما لم يتوقع معلوف أن يشهد الاتحاد الأوروبي تهديدًا لاستقراره، بهذا التسارع، مع طلب بريطانيا الانفصال، ومع تصاعد اليمين العنصري بهذا الشكل في كل أرجاء أوروبا، باستغلاله البشع لورقة تدفق اللاجئين والمهاجرين. على الرغم من ذلك فإن مظاهر الاختلال في أوروبا، ما هو سوى مثال لما يجري في بقاع أخرى من العالم، بل هو ربما الأقل تحدّيًا، لأن في أوروبا ما تزال هناك –على الأقل– مرجعيات تناقش وتبحث بغية استنباط حلول ما لأزماتها.

أما الولايات المتحدة، التي انتصرت على عدوّها العالمي الرئيس في الحرب الباردة، فقد وجدت نفسها، كقوة عظمى وحيدة، تخوض غمار مشروع هائل للسيطرة على العالم، والتحكّم فيه، بيد أن هذا بالتحديد ما أنهكها، ودفع بها إلى التيه. لقد وجدت نفسها بمفردها تقريبًا، تحاول أن تروّض كوكبًا يستحيل ترويضه. هل هذا ما دفعها إلى الانكفاء، وانتهاج سياسة “الحمائية”، و”أميركا أولًا”، بعد حروب جورج بوش الابن، وصعود المحافظين الجدد؟!

تفاءل معلوف بوصول أول رئيس من أصول أفريقية إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، على أمل إعادة التوازن في سياسات هذا البلد، ولكن ماذا عساه يقول لو أن كتابه صدر بعد صعود “ترامب” الصاعق؟!

على الرغم من أن مؤسسات الدولة العميقة هي التي تحدد سياسات الولايات المتحدة، فإن معلوف ربّما كان له رأي أخر، أكثر تشاؤمًا، وهو يرى هذا الرئيس الشعبوي، يستعرض بأناه المتضخمة توقيعه على معاهدة الانسحاب من اتفاقية المناخ، ويفتح عبر تغريداته أبواب جهنم على حروب تجارية مع حلفائه، قبل أعدائه، مما يجعل العالم أقلّ أمنًا، بسبب سياسة حافة الهاوية التي ينتهجها، بوصفه رئيسًا للبلد الأقوى، الذي يُعتبر قاطرة العالم. في الوقت ذاته ما يزال قادة روسيا يحلمون باستعادة قدرتهم كقوة عظمى، ولهذا يمارس بوتين سياسة “براغماتية”، باستغلاله أبشع استغلال، الفرصة السانحة له في سورية، كلاعب أساس، و”كتاجر سلاح” يستعرض منظوماته على اللحم الحي للسوريين، وعمرانهم، دون أي رادع أخلاقي، أو إنساني، وذلك في إطار منافسته الفظة للغرب على حساب الدم السوري.

يبدو معلوف ربما أكثر تشاؤمًا، وهو يستقصي ما يجري في عالمنا العربي – الإسلامي، الذي يغوص أكثر فأكثر في “بئر” تاريخية، عاجزًا عن الصعود منها. يقف معلوف مطولًا عند هذه الظاهرة، وأسبابها الداخلية والخارجية، ويناقش مسألة “الشرعية”، والهزائم المتتالية منذ مطلع القرن الماضي، التي أفضت إلى تكريس الاستبداد، ومن ثم صعود الأصوليات الدينية المتطرفة، والطائفية البغيضة، التي تعمقت منذ وصول الخميني إلى السلطة في طهران، وتأسيس دولة دينية، تحاول مدّ أذرعها في محيطها الملتهب أساسًا، بعد الهزائم المتتالية للأنظمة العربية أمام “إسرائيل”، وشعور الشعوب العربية العميق، بالمهانة، والإحباط، وفقدان الثقة، والتهميش؛ الأمر الذي مهدّ الطريق أمام صعود الأصولية الدينية المتطرفة.

كذلك فإن الصين؛ هذا العملاق الآسيوي الصاعد بطريقة مسرحية، والحريص على مواصلة نموه الاقتصادي، إلى جانب صون التماسك الاجتماعي والوطني، لديه الكثير ممّا يدعوه إلى القلق، وعدم الوثوق بالبوصلة التي يمسك بها؛ إذ ثمة مؤشرات إلى أنه يقترب بسرعة كبيرة من بقعة لن تعود آلته فيها بذات نفع.

إن جميع شعوب الأرض، بأغنيائها وفقرائها، هي في مهب الريح، والجميع على متن زورق هزيل، سائرين إلى الغرق معًا، مع ذلك لا يكف الجميع عن تبادل الشتائم، والمشاحنة غير آبهين لتعاظم أمواج البحر. لكن بالرغم من سوداوية المشهد، ما زال ممكنًا البحث عن نظام دولي جديد، يسمح بإبعاد خطر التقهقر الذي يظهر في الأفق، وهذا من واجب الأرواح الطيبة الي تسكن العالم إلى جانب تلك الأرواح الشريرة، التي تعمل على هدمه!

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق