لا يكاد يمضي يوم، من دون أن يطلّ أحد المسؤولين الأميركيين مهاجمًا الوجود الإيراني في سورية، محذرًا بأن بلاده لن تقبل بحلّ “لا يتضمن (تحجيم) الدور الإيراني”. وربما لا داعي للإسهاب في الحديث عن دوافع الولايات المتحدة لمهاجمة إيران التي تتحايل على الاتفاق النووي، وتحاول مواصلة برنامج تطوير أسلحتها النووية والكيميائية في الأراضي السوري، لا سيما في منطقتي مصياف (حماة)، وبانياس (طرطوس). وإلى جانب ذلك، تهدد بمسار تغلغلها (المذهبي) تارة، و(المقاومتي) تارةً أخرى، مصالح حلفاء الولايات المتحدة: “إسرائيل” والأردن مع دول الخليج، التي تقاربت مؤخرًا إلى حدٍ كبير في ما بينها، حيث أخذت تقطع خطوات في عملية التطبيع البيني.
(تحجيم) النفوذ الإيراني، وليس تقويضه، هذا ما يُقتبس من تصريح نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، الذي قال على هامش لقائه العاهل الأردني، في 21/ 1/ 2018: إن التواجد الأميركي في سورية يرمي إلى (تحجيم) الدور الإيراني، وليس فقط مواجهة تنظيم (داعش).
إذًا، تحجيم وليس ضربة قاضية، لماذا؟
ــ على صعيد أميركي دولي: ربما الرغبة الأميركية – الغربية في اللعب على وتر التناقض والخلاف بين إيران وروسيا.
وعلى الأرجح، العزوف الأميركي النسبي عن استراتيجية (الفوضى الخلّاقة) التي اتبعتها الإدارة السابقة، بهدف إضعاف مركزيّة دول المنطقة لصالح إعادة تأسيس المنطقة على نحوٍ يحفظ مصالحها أمام دول ضعيفة ومتشظية، غير أن الإدارة الحالية تتبنى سياسة انعزالية تقوم على التحالف (التكاملي) مع دول إقليمية فاعلة، في سبيل تطبيق استراتيجية (الاحتواء والتطويق) ضد الأطراف التي تهدد مصالحها وحلفائها، بفاعلية أكثر وتكاليف قليلةٍ.
ولعل صعوبة الدخول في حربٍ مباشرة مع إيران ذات السيطرة الميدانية الواسعة يلعب دورًا كبيرًا في الاتجاه نحو (التحجيم)، وليس القضاء الكامل.
كما أن الرغبة الروسية في الإبقاء على النفوذ الإيراني النسبي، (كعمودٍ) يُستند إليه في حماية المصالح القطبية المشتركة العامة، بالرغم من الخلاف في التفاصيل، لا سيما أن إيران (قوة برية) تُساند التوجه الروسي الاستراتيجي نحو تفعيل قدرات (القوة البرية) ضد القوة البحرية (الناتو)، إضافة إلى موقعها الجغرافي الحيوي بالقرب من دول آسيا الوسطى.
ــ على صعيد إقليمي: ربما انعدام القوة الإقليمية القادرة فعلًا على منافسة إيران اقتصاديًا وسياسيًا بالكامل، انعدام الرغبة لدى الدول الإقليمية المجاورة لإيران: تركيا وتركمنستان وغيرهما، في الانضمام الكامل إلى العقوبات الأميركية، نظرًا إلى حجم الارتباط الاقتصادي الوثيق، وترابط المصالح السياسية المشتركة في ما بينها.
ــ على الصعيد الإيراني البنيوي: يُلاحظ أن الثراء الريعي لإيران، لا سيما في مجال الغاز الطبيعي، يجذب عددًا من الدول الأوروبية للنظر في آليات التعاون معها، في سبيل توفير بديل نسبي للغاز الروسي. كما أن القوة العسكرية الميليشياوية لإيران تدفع، على الأرجح، بعض الدول، إلى القبول بسيطرتها، كسلطة أمر واقع يمكن تحجيمها، وليس القضاء عليها بالكامل.
مآل النفوذ الإيراني
في ظل هذه المعادلة، كيف يمكن أن يكون مآل النفوذ الإيراني؟
يمكن رسم كثير من السيناريوهات المُتعلقة بالنفوذ الإيراني، انطلاقًا من تواجده في لبنان والعراق واليمن، حيث يُمكن الإشارة إلى سيناريوهات عدة على النحو التالي:
ــ سيناريو قوة السيطرة المُطلقة: يُطابق هذا السيناريو السيناريو اليمني، حيث يُمكن أن تدعم إيران إحدى القوى السورية، الفرقة الرابعة، أو الفيلق الرابع، وغيرهما، مع شراء ولاءات للسياسيين واقتصاديين فاعلين يدعمون تحركها على النحو الذي يرمي إلى تأسيس قوة سيطرة مطلقة تُظهر للسطح سلطة أمر واقع قوية تنازع شرعية القوى الأخرى، لتحاول الاستفراد بالشرعية أو مقاسمتها مع الأطراف الأخرى.
ــ سيناريو الاستتباع شبه الكامل: يُشابه هذا السيناريو الحالة العراقية القائمة على سيطرة أمنية ودبلوماسية واقتصادية إيرانية، استلبت فيها إيران الإرادة السياسية العراقية، من خلال (دسترة) أو (قوننة) وجود ميليشياتها الشيعية، وإقحام مستشاريها العسكريين والأمنيين في خلية حلّ الأزمة، عبر اتفاقات الدفاع المشترك، وتحصين النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، بسياسيين أنشأتهم ورعتهم، منذ سنوات، على مقاسها؛ باتوا مرتبطين بها ماديًا، وعضويًا، من ناحية مذهبية، والسيطرة على السوق العراقي باتفاقات اقتصادية عديدة، أبرزها تلك المُغرقة للبلاد بالديون، وبث خطاب إعلامي وشعاراتي طائفي، وآخر (مقاومتي) ضد أميركا و”إسرائيل”، مع قتل الروح الوطنية لحساب الروح المذهبية.
لكن يبدو أن كلا السيناريوهين المذكورين أعلاه لا يُمكن تطبيقهما في سورية، لعدة اعتبارات:
– عدم جاهزية البنية التحتية للميليشيات الموالية وللبيروقراطية السورية في موالاة إيران التي أخذت هذه البنية معها إلى العراق.
– التوجه العلماني واليساري (غير المذهبي) للبيروقراطية السورية.
– التطويق أو (التحجيم) الإقليمي والدولي القائمة ضدها.
– المنافسة الروسية لسيطرة إيران، حيث باتت تُمثل روسيا، عرفًا، الدولة المسؤولة عن تسوية الأزمة السورية في المحافل الدولية، فضلًا عن أنه لا يُعقل أن تتفوق إيران (الدولة الإقليمية) على روسيا (الدولة العُظمى) التي تحاول مواكبة التحرك الأميركي ضد النفوذ الإيراني، في سبيل تحقيق مكتسبات سياسية وميدانية في سورية، وغيرها من المناطق.
– الرفض الأميركي لنفوذها في سبيل مراعاة مصالح الحلفاء الإقليميين.
سيناريو التوغل المؤسساتي المراعي لحالة المحاصصة الجغرافية:
يُشير هذا السيناريو إلى وصول إيران في سورية إلى منعطف تحوّلي، يخفف حجم السيطرة الميليشاوية العسكرية، ويتجه نحو اتباع سيناريو سيطرة ناعمة يتم من خلال:
ــ غرس موالين في مؤسسات صنع القرار السياسية بمقابل مادي وامتيازات. ويُطلق على هؤلاء الموالين اصطلاحًا (الطبقة الطفيلية)، أو (البيروقراطية السمسارية)، مع تقنين تواجدها باتفاقات سياسية واقتصادية تضمن وجودها لمدى طويل، على نحوٍ يمكّنها من السيطرة على كمية كبيرة من موارد الدولة الريعية.
ــ فتح قروض ائتمانية أمام رجال الأعمال المسيطرين على الوضع الاقتصادي، مع التركيز على تثبيت قواعدها الديموغرافية في محيط دمشق، وعلى طول ممرها البري الذي يبدأ بالبوكمال، وينتهي في القصير، في سبيل ضمان استمرار دعم (حزب الله)، ومد خطها لنقل الغاز الطبيعي نحو لبنان، ومن ثم إلى أوروبا مستقبلًا.
ــ النظر في آليات التوغل المجتمعي، من خلال فتح المراكز الثقافية والنوادي الرياضية، ودعم منظمات المجتمع المدني القائمة على هدف تقديم المعونات لذوي الحاجة، ونشر مراكز التشيّع.
ــ تقديم الدعم المادي والعسكري (الخفيف) لأهالي المناطق (الشيعية وغير الشيعية) الذين يقطنون في إطار خطها البري، ويتصفون بصفات سلوكية صحراوية، تجعلهم يقبلون بدور الحامي لمصالح أي طرف يُقدم، من أجل تحصين مشاريعها بقوة شعبية بديلة للميليشيات الشيعية التي بات دورها منتهيًا.
يُشابه هذا السيناريو التغلغلَ الإيراني المؤسسي القائم في لبنان من خلال (حزب الله)، ولكن نقطة الخلاف الأساسية، بينه وبين الحالة اللبنانية، هي (نعومة) تطبيقه بعيدًا عن القوة العسكرية الصلبة. والسبب الأساس وراء ذلك هو جنوح طهران لعقلانية تستجيب للضغوط الإقليمية والدولية – التركية والروسية والأميركية – وقواعد القانون الدولي التي ترفض استمرار وجود الميليشيات الشيعية الأجنبية في سورية، مع رفض الدولة السورية (ممثلة بدمشق) بقاء إيران كقوة عسكرية ضاربة في سورية، فدمشق تنظر إلى إيران كـ (حليف)، وليس (متبوعًا) مركزيًا، عوضًا من العدد القليل للمواطنين السوريين الشيعة مقارنة بلبنان والعراق.
وبحسبان المحاصصة الجغرافية التي نشأت في سورية، من خلال السيطرة التركية والأميركية والروسية والإيرانية المباشرة؛ يُتوقع أن تركّز إيران نفوذها على طول خطها البري، ومحيط دمشق، ومصياف (حماة)؛ حيث مصانع تطوير التقانة العسكرية، وجنوب حلب؛ حيث بعض السكان الشيعة والمصالح الاقتصادية.
في المحصلة، يُستبعد سيناريو الانسحاب الإيراني الكامل من سورية، لعدة أسباب أهمها؛ التساؤل المطروح حول دوافع إيران لتسليم شؤونها إلى روسيا التي تنافسها أصلًا في النفوذ في سورية؟ وحاجة إيران إلى نفوذ حي، ولو كان محدودًا، في سبيل إدارة الوضع الأمني والسياسي لمصالحها في سورية، لا سيما في ظل كونها مصالح تشمل أكثر من بقعة جغرافية في سورية، إضافة إلى الدافع الجيوسياسي: تنطلق الدول لتحقيق مصالحها في حيزٍ جغرافيٍ خارج حدودها القومية، بدافع اقتصادي أولًا وأخيرًا، ومن ثم أمنيًا وعسكريًا، وبالتالي لا يُعقل أن تترك إيران، التي أنفقت ما يقارب 12 مليار دولار سنويًا منذ بداية الأزمة السورية، الكعكعةَ من دون حصة مُجدية ومضمونة.