سواء سمّى الطاغية نفسه ملكًا أو أميرًا أو رئيسًا أو زعيمًا أو قائدًا، أو سوى ذلك، هو شخص استولى بشكل غير شرعي على موقع حكم أو سلطان، وهو يُدرك هذه الحقيقة، ويعي أن شعبه أو جمهوره لن يعترف ولن يقبل به، لو ظهرت حقيقته السافرة، وهو دائمًا يخشى هذا الشعب، لذلك يلجأ إلى القمع والبطش والإفساد والتجهيل والتضليل، وهو يسعى بذلك إلى توطيد سلطته، ولا مانع لديه من أجل هذه الغاية من اللجوء إلى أي وسيلة، مها كان انعكاسها على بلده سيئًا وثمنها على شعبه باهظًا!
الزعماء الدكتاتوريون الذين لا شرعية حقيقية لسلطتهم، دائمًا يبحثون عن شرعية زائفة، وغطاء يخفي حقيقة طغيانهم وفسادهم ويبررها، ومنهم من يتخذ غطاءً دينيًا، فيما يتخذ آخر غطاءً قوميًا، وثالث غطاءً اشتراكيًا، ورابع غطاءً وطنيًا، وهكذا دواليك؛ ولأنهم كلهم متشابهون في جوهرهم تحت الغطاء، فهم يفسدون ويمسخون كل ما يتخذونه غطاء من دون استثناء، سواء أكان ذلك دينًا أو قومية أو اشتراكية أو وطنية أو سواها!
ربما يكون العرب، في عصرنا الراهن، أكثر من ابتلي من أمم الأرض بمختلف أنواع الطواغيت وأشرسها، فلم يكادوا يبصروا بعضًا من ملامح الاستقلال عن المحتلين الأجانب، حتى انقض عليهم طواغيت الداخل ليعيثوا فسادًا يتجاوز فعل الأجنبي إلى حد مهول! وقد حصل هذا تارة تحت راية الإسلام، وأخرى تحت راية العروبة، أو راية التقدم، أو باسم الشعب، أو تحت شعار الوطن، وهلمّ جرّا!
في المحصلة، مهما كانت الراية التي يرفعها الطاغية، فهي في يديه ليست أكثر من غطاء يستخدمه لتغطية الوجه الحقيقي لطغيانه وفساده، وذريعة يتخذها لتثبيت أركان سلطانه الهش، وهي سلاح لتكفير أو تحقير أو تعهير أو تخوين كل معترض ومختلف ومخالف، باسم الله والوطن والشعب، وتكون النتيجة تدمير الإنسان والدين والوطن!
الطاغية -سواء أكان دينيًا أم قوميًا أم يساريًا أم غير ذلك- يستغـِلّ كل ما هو إنساني ليستخدمه ضد الإنسان، فيفسده ويُلغي جوهره ويُلغي معه إنسانية الإنسان، وبلا إنسانية الإنسان لا يبقى من الإنسان إلا بيولوجيا الحيوان، ويصبح الدين صنمية، والقومية والاشتراكية والوطنية وسواها شعوذة، والوطن سجنًا أو منفى!
في الأنظمة الديكتاتورية، لا مكان حقيقيًا لمفهوم الإنسان! ولا لشيء اسمه حقوق إنسان، سواء أكانت هذه الحقوق مادية أم معنوية! فهناك دائمًا أتباع ورعايا دون مستوى المواطن الإنسان، وفي الحقيقة ليس هناك لا وطن ولا شعب، فهذه القضايا الرفيعة مرتبطة جوهريًا وكليًا بالمبدأ الإنساني.
المواطنة هي الشكل الذي تتحدد من خلاله العلاقة مع الدولة الوطنية حصريًا، المتجاوزة لكل ما دونها من البنى التقليدية وغير التقليدية والمتعالية عليها جميعها، وتقوم على أساسها الهوية الوطنية، وهي نظام متكامل من الحقوق والواجبات التي يؤسس بعضها بعضًا، ويشرعن بعضها بعضًا، فإن سقط منها الجانب الحقوقي -وهذا ما يتم في الديكتاتورية- سقطت كلها كمنظومة، وسقط معها مفهوم الوطن والوطنية، وحين يسقط مبدأ الوطنية، وتتلاشى معه الهوية الوطنية؛ يصبح من العبث الكلام عن شيء اسمه “شعب”، فهذا المفهوم مرتبط جذريًا وحصريًا بهوية جامعة هي الهوية الوطنية، ذات الجوهر الإنساني في مضمونها، وهو جوهر لا مكان له في معاقل الدكتاتوريات، وهكذا تمسخ الدكتاتورية مفهوم الوطن بإفراغه من محتواه الإنساني، وهذا ينطبق تمامًا على الدين بدوره، فالدين يفقد معناه وقيمته، حين ينفصل عن المبدأ الإنساني، ولا يبقى منه إلا طقوسه الغيبية المفرغة من المعنى والدور الإنسانيين، وقيوده اللاعقلانية المكبـِلة لحركة المجتمع والفرد، والخادمة لأغراض القوى ذات المصالح الخبيثة!
اليوم، على ساحتنا العربية في مواقع الحكم أو مواقع المعارضة أو الثورة المفترضة، ما أكثر المستمرين في لعب هذه اللعبة القديمة الجديدة، التي استُغِلت وما زالت تُستغـَل فيها الشعارات الكبرى أكبر استغلال!
فباسم الإسلام، قامت -وما زالت تقوم- أنظمة حكم متوارثة مدعومة بقوى تقليدية متدنية المستوى الاجتماعي (مذهبية، طائفية، قبلية، عرقية…)، وجد متأخرة عن مستوى الشعب والأمة والمجتمع الحقيقي، وهذه الأنظمة تتناقض مصلحتها بشكل جذري مع أي تحديث أو عصرنة لفهم الإسلام، بقدر ما تتناقض مع بناء الدولة الوطنية الحديثة، ولذا نراها من ناحية تدعي حماية الإسلام، ومن ناحية ثانية تُقدّمه بالصورة التي تضمن بقاء هيمنتها وسيطرتها، فتسعى لتكريسه في صورة ماضيوية متخارجة مع العصر، وتتعاون بشكل حثيث لهذه الغاية مع رجال دين يرتبطون بها مصلحيًا، ويحملون الذهنية الدينية الغيبية والنزعات اللاعقلانية العصبية، لتجعلهم، إضافة إلى قواها القمعية البوليسية وأجهزة إعلامها الترويجية، وسيلةً في محاربة الفكر الديني المحدّث والفكر العقلاني والعلمي الحديث على حد سواء، ولتكفير كل من يتجرأ على عصيانها أو معارضتها!
باسم العروبة والوطنية والاشتراكية والعلمانية وما شابه، قامت أيضًا أنظمة دكتاتورية بوليسية أو عسكرية بشكل مباشر أو غير مباشر، تستفرد تمامًا بالحكم، وتبطش بكل من يعارضها، كائنًا من كان، واصمة إياه بالخيانة والعمالة لأعداء الأمة والشعب والوطن، حيث يُختزل فيها الوطن في النظام الحاكم، ويختصر فيها النظام نفسه في شخصية زعيمه، فيصبح معيار الوطنية والمواطنة الصالحة متطابقًا تمامًا مع الولاء للزعيم، فالموالي هو فقط الوطني، أما المعارض فهو خائن، والزعيم شخصية رمزية مقدسة، وهو في عصمةٍ عن الخطأ، ورفعةٍ عن النقد، والويل لمن خطّأه أو انتقده، فما بالك بمعارضه أو الثائر عليه؟!
هذه الأنظمة التي تبدو غير دينية في ظاهرها -فضلًا عن بطاناتها وحاشياتها الفاسدة التي تتفرعن على الناس وتنهب البلد عادة- قد تتحالف أو تتصارع مع القوى الدينية، وفقًا لما تقتضيه مصالحها، وقد تستغل القوى الدينية لضرب القوى المدنية أو بالعكس، إن اقتضى الأمر، ولا مانع لديها حتى من إثارة النزاعات الطائفية أو العرقية إن كان ذلك يخدمها، وقد حدث هذا في أكثر من بلد عربي، وما زال يحدث!
في مواقع الحكم الرسمية، تتعدد أشكال ومبررات الاستغلال، فهذا يبطش بأي مخالف بدعوى الدفاع عن الدين، وذاك يتنكر لأي استحقاق وطني بذريعة الدفاع عن الوطن، وثالث يقضي على خصومه ومعارضيه تحت شعار محاربة الإرهاب، ورابع يتعاون مع أعداء الدين والوطن، بحجة السلام أو مصلحة الدولة، وهكذا دواليك.
لكن الاستغلال لا يقتصر على مواقع الحكم الرسمي وحدها، بل يتعداها إلى الطرف المناقض، حيث تستغل الشعارات الدينية والوطنية وما ماثلها من قبل القوى الساعية للوصول إلى السلطة بأي ثمن، سواء تمّ ذلك بالسلم أم بالعنف، فقوى الإسلام السياسي -مثلًا- ترفع شعارات الإسلام والحكم الإسلامي حينًا، وتلعب -أو تتلاعب- بلعبة الديمقراطية حينًا آخر، إن كان في هذا أو ذاك جدوى تمكنها أو تقربها من سدة الحكم! كما أن العديد من غير الإسلاميين لا مانع لديهم من الانخراط في المخططات الإقليمية أو الدولية المغرضة، مبررين ذلك بأنه عمل من أجل الديمقراطية أو من أجل محاربة الإمبريالية والصهيونية، وهكذا دواليك.
فضلًا عن هؤلاء ومن سبق الحديث عنهم، نجد عيّنة أخرى هي ليست في موقع الحكم الرسمي، ولا في موقع المجابهة معه، وهذه العينة تتمثل بأصحاب النفوذ من الوجهاء والزعماء التقليديين الطائفيين أو القبليين أو العرقيين، الذين يدّعون بدورهم حماية مصالح الجماعات التي يتزعمونها، وتحت هذه الذريعة يبذلون قصارى جهدهم لتكريس وتضخيم الولاءات والانتماءات الفئوية، لأن وجودهم ومصلحتهم مرتبطان تمامًا ببقاء وقوة هذه الولاءات والانتماءات، وهؤلاء يستخدمون أوراقهم الفئوية ليصنعوا بها ثقلًا خاصًا، يمكنهم بدرجة ما من المشاركة في كعكة السلطة، فيتحولون عادة إلى أعوان أو أتباع للحاكم!
هذه أوجه من أوجه استغلال الشعارات والمبادئ ذات القيمة الإنسانية الرفيعة، لغايات ضد إنسانية مناقضة تمامًا، وفي كل منها يعمل المستغـِل بكل قواه على تضليل وخداع شعبه أو جمهوره وتزييف وعيه، وتحويله فعليًا إلى عدو لنفسه وأمثاله من المستغـَلين، وهي لعبة يلعبها كبار المستغـِلين وصغارهم، ولا تقتصر على منطقتنا العربية وحدها، فلعبة محاربة الشيوعية لعبها الغرب الرأسمالي على مدى عقود، واستغلها للتغطية على تناقضاته وأزماته الداخلية، وبعد انهيار الشيوعية، استبدل محاربتها بمحاربة الإرهاب، والإرهاب الإسلامي المزعوم أو المصطنع بشكل خاص.
إنها لعبة “الشيطان” الذي غالبًا ما يأتي مُقنّعًا بقناع “ملاك النور”، كما يُقال في الإنجيل، والتنوير الحقيقي هو أهم سلاح في مواجهتها.