تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

في إدلب: تكلّموا بصوت منخفض واحملوا عصًا غليظة!

تتركز التصريحات الدولية والإقليمية، بشأن الوضع في سورية هذه الأيام، حول مصير إدلب، واحتمالات المعركة التي يُعِدّ لها الروس والإيرانيون وسلطة الأسد، فتارة تتقدم التصريحات التي تؤكد أن “الهجوم الوحشي” قادم لا محالة، وتارة أخرى يتراجع هذا الاحتمال، وتبرز مكانه إمكانية الوصول إلى حلّ، يُجنّب إدلب والسوريين فيها مجزرة جديدة، كالتي لحقت بسابقاتها من المدن والمحافظات. والأكثر رواجًا اليوم أن معركة إدلب مؤجلة إلى حين، حسب الدبلوماسية الروسية.

يعلم كل متابع للتطورات السياسية الدولية أن “التسخين والتبريد”، في ما يتعلق بالمعركة أو اللامعركة أو نصف المعركة، يتم بفعل التجاذبات الدولية بالأساس، وليس نتيجة موازين القوى الداخلية في سورية، بين القوى المناهضة لسلطة الأسد، وبين الحلف الوحشي المعادي لإرادة السوريين في الحرية وتغيير سلطة الطاغية.

في غضون تلك المعمعة الإعلامية والدبلوماسية، برزت نبرة عالية لدى عدد من مسؤولي الفصائل المسلحة المناهضة للحلف المعادي للشعب السوري (روسيا وإيران وسلطة الأسد)، ومعهم عدد من قيادات الائتلاف المعارض، فلم يكتفوا بإظهار جاهزيتهم لصد الهجوم على إدلب، إذا وقع، إنما توغلوا في استعراض القوة بتصريحاتهم، والإعلان أنهم في حال بدأت المعركة لن يقفوا عند حدود الدفاع عن المحافظة، وسينقلون المعركة إلى الهجوم على حماة وحلب ومناطق أخرى. ولتدعيم موقفهم هذا، دأبوا على تسليط الأنظار إلى ما تناقلته وسائل الإعلام عن سلاح فعّال تمّ تسليمه إلى تلك الفصائل عبر تركيا، وعلى إبراز التغير في الموقف التركي، بعد فشل قمة طهران بين الرؤساء الثلاثة (أردوغان وبوتين وروحاني)، وما تلاها من تصريحات غربية وأميركية، بدت متشددة في طرحها لمواقفها، إن أقدمت سلطة الأسد على الهجوم ومحاولة اجتياح محافظة إدلب.

من المؤكد أن التجاذبات حول ما يجري حول إدلب، وما يمكن أن يجري، تترك فرصة لاحتمال منع جريمة جديدة في المحافظة، خاصة أن التلويح الأميركي والغربي باستخدام القوة ضد قوات الأسد، لم يتوقف عند السبب الوحيد المطروح منها سابقًا “استخدام الكيمياوي”، وظهرت التصريحات الإضافية، بأن أي ارتكابات وحشية ضد المدنيين في إدلب، سيتم الرد عليها، ولن يسمح بها.

زد على ذلك ما ورد من شروط أميركية لحل الأزمة السورية، اتفق عليه بين ما يسمى: “المجموعة الدولية المصغرة العاملة لحل الأزمة السورية”. وهي شروط واضحة جدًا لن يقبل بها بشار وحلفاؤه طوعًا، ولكن يمكن للمعارضة وللفصائل المعتدلة البناء عليها، وصياغة مواقف أقوى في مواجهة ما يمكن أن تتعرض له محافظة إدلب.

مع قناعتنا بضرورة رفع معنويات الشعب، إبان مواجهة التهديدات والأخطار، لكن يجب أن لا ينسى قادة الفصائل المسلحة، ومسؤولو المعارضة، أن الثورة، كل ثورة، هي بالأساس فعل دفاع استراتيجي، وعندما تتمكن قواها من القيام بهجمات فعالة، ضد أعدائها، لا يعني أنها هي التي في موقع الهجوم، أو أن موازين القوى أصبحت راجحة لمصلحتها. ويُشكّل مضمون الخطاب الدعائي التعبوي مؤشرًا ذا دلالة مهمة على نضج قوى الثورة، أو على فجاجتها وطفوليتها. كما أنه -الخطاب- يمكن أن يصبّ الماء على طواحين الأعداء، إذا افتقد الموضوعية والدقة، أو تجاهل إمكانية توظيف ما يردده الإعلام الدبلوماسي والسياسي في الجبهة المعادية. والمفارقة اللافتة في موضوع إدلب، أن السياسيين والدبلوماسيين الروس، عبر شبكات إعلامهم، يرددون أيضًا أن “المسلحين” في إدلب يستعدون لشن هجمات في حماة وحلب، بغرض تبرير هجومهم الوحشي على آخر معاقل الثورة في سورية.

ألم يكن الأفضل لقوى الثورة، بدل رفع الصوت بالتهديد والوعيد بتوسيع المعركة خارج محافظة إدلب، وتقديم ورقة إضافية لروسيا في تبرير بطشها، أن تقوم بلفت أنظار العالم إلى التهديد الروسي باستهداف (الخوذ البيضاء)، باعتبارها “إرهابية”، ومطالبة المجتمع الدولي بإدانة هذا الموقف الفاشي الهمجي، وبالدعوة إلى إجراءات رادعة، في حال أقدمت روسيا وحلفاؤها على مثل هذا الإجرام، وسبق أن أقدمت على ذلك. أو القيام بدحض ادعاءات موسكو، المتناقضة حول “الإرهاب”، حيث تدّعي تارة أنها تستهدف “النصرة” وقوى الإرهاب في إدلب، وتارة أخرى تتحدث عن القضاء على المسلحين جميعهم هناك؟ وكذلك الإعلان الروسي عن فتح ممرات آمنة لخروج المدنيين، بما يعني أن النيّات مبيتة لشن الهجوم، إلى جانب الادعاء أن مساعيها تهدف إلى تجنيب إدلب خطر كارثة جديدة.

بعد سلسلة من التجارب التي خاضتها قوى الثورة، صار لزامًا على قياداتها السياسية والعسكرية أخذ الدروس، وعدم الانزلاق إلى الدعاية المبنية على الرغبات، أو على معطيات غير مكتملة في قراءة المشهد السياسي، على الرغم من أن ما يلوح في تداعيات السجال، حول إدلب ومصيرها، ينطوي على إرهاصات مختلفة، تجعل الأمل بمنع حدوث كارثة فيها، له بعض دعائمه، لكن الحراك الدولي والإقليمي، كما جرى في تجارب سابقة، يمكن أن يفضي إلى انزياحات تقلب الأمور رأسًا على عقب. ولا بد أن يؤخذ ذلك بالحسبان.

مفاده أن الوضع في السجال حول إدلب، وتعقيدات الوضع فيها وحولها، يحتاج إلى وقفة هادئة ورصينة ومحسوبة بدقة. وبموجبها يتأسس الخطاب الدعائي والتعبوي والإعلامي، وتجنب النبرة العالية، إلى جانب العمل لتوفير كل مستلزمات الصمود والمواجهة، وبصمت.

لا بأس هنا أن تتمثل قوى الثورة والمعارضة السورية، الفكرةَ التي أطلقها القائد الفيتنامي “هوشي منه”، لترشيد قوى الثورة في بلده، حين اعتمد على الموروث الشعبي للفيتناميين، الذي جاء فيه: “تحدثوا بصوت منخفض، وخبئوا عصًا غليظة خلف ظهوركم”.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق