مقالات الرأي

إدلب.. مرآة سورية القادمة

خمَدت طبول الحرب التي كانت تُقرع بأيادٍ روسية وخمينية وأسدية حول إدلب، وانخفض احتمال المعركة “الحاسمة”، بالنسبة إلى بشار الأسد وحلفائه، وبالتدريج، بدءًا من تراجع حِدة تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، وصولًا إلى إعلان الاتفاق في سوتشي، بين الرئيسين الروسي والتركي حول المنطقة منزوعة السلاح. وهو الأمر الذي ألغى، ولو مؤقتًا، احتمال عملية عسكرية كبيرة في إدلب، يعزز فيها النظام وحلفاؤه “انتصارهم” العسكري على السوريين.

طبعًا، سيكون وقف أو تلافي المعركة، وتجنيب أهل إدلب والنازحين إليها طعم الموت أو النزوح مجددًا، أمرًا مرحبًا به، وسيتيح الاتفاق لأهالي المنطقة التقاط أنفاسهم قياسًا باحتمالات أخرى كانت ستواجههم، كائنًا من كان الطرف الذي كان سببًا في إنجاز هذا الاتفاق وإعلانه، ودوافع هذا الطرف. وهذا أيضًا، تبعًا لغياب قرار السوريين بشأن مصيرهم ومصير بلدهم، وغياب قدرتهم على المبادرة والفعل في داخل البلاد وخارجها، وتحوُّل سورية إلى ورقة بيد القوى الإقليمية والدولية تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال، طالما أن لحظة التسوية الكبرى للملف السوري وملفات غيره مرتبطة به في العالم، لم تحن بعد.

يمكن تقديم وعرض تكهنات كثيرة حول دوافع ما حصل في سوتشي بين بوتين وأردوغان، بعد فترة تجلى فيها القرار الروسي الواضح بدعم الحسم العسكري في إدلب والمشاركة فيه لصالح نظام الأسد، بحجج وذرائع مختلفة. ويأتي ذلك كله بعد فترة طويلة من اللامبالاة الدولية، تجاه سورية وتجاه تحولها إلى ساحة نفوذ لبوتين وللولي الفقيه. عدم الاكتراث الغربي كان عاملًا أساسيًا في صعود النفوذ الروسي والإيراني في سورية، بعيدًا عن خطابات الممانعة والمقاومة والصمود من قبل محور مواجهة الإمبريالية.. وغيرها من شعارات طنانة. وكانت تكفي إشارة أو تصعيد سياسي غربي أقلّ من المطلوب لإعادة تموضع الثالوث “بوتين، خامنئي، الأسد”، أمام احتمالات المعركة التي كانت تقترب، ولنزع فتيلها. هذا ما كانت تشير إليه وثيقة مقدمة من “الدول السبعة” إلى المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، تم تسريبها في الصحافة، بما أزعج الروس بالدرجة الأولى.

تبدو الوثيقة، على علّاتها وعلى إشكالات النقاط المطروحة فيها، متقدمة في السقف السياسي لتصور مستقبل سورية القريب، قياسًا بخطاب أميركي وأوروبي وعربي تسيّدَ الموقف تجاه سورية خلال الفترة الماضية، وخصوصًا بعد سقوط حلب بيد الأسد. وهي تشير إلى نقاط يبدو أن الغربيين قد حسموها في ما يتعلق بالملف السوري ورؤيتهم له، وخصوصًا فيما يتعلق بضرورة إخراج إيران وأياديها من سورية، وموضوع إعادة الإعمار الذي يرتبط، بالنسبة إلى صانعي الوثيقة، بــ “الانتقال السياسي”، على الرغم من عدم الحديث عن مصير بشار الأسد ورحيله عن السلطة، وهو الشرط اللازم الذي تدرك الدول السبعة قبل حلفاء بشار الأسد بأنه العقدة الرئيسية، والمدخل لأي حل سياسي مفترض وحقيقي في البلاد.

مؤيدو بشار الأسد وشبيحته رأوا في هذا الاتفاق نصرًا لهم، من دون أن يتضح أو أن يوضحوا ماهية هذا النصر المنسوب إليهم وإلى رئيسهم، ولا مرتكزاته ومقوماته. في المقابل، رأى معارضون سوريون عبر كتاباتهم أيضًا أن الحسم السياسي في سورية بات قريبًا، وتصاعدت نبرات التلويح بهزيمة بوتين والأسد في القريب، مع تصاعد حدة اللغة السياسية في عواصم صنع القرار في الغرب تجاه النظام، طوال تلويح هذا الأخير بمعركة إدلب، وصولًا إلى إنجاز الاتفاق الذي لا يخفى الدور الغربي فيه. وبين الطرفين المنفعلَين والذاهبَين في خطاب الانتصارات حتى أقاصي هذا الخطاب، تنفس معارضون آخرون الصعداء طالما أن مجزرة جديدة لن تحدث، تبعًا لاستحالة حسم عسكري ضد النظام، وأيضًا تبعًا لانغلاق أبواب الحل السياسي المُنصف للسوريين، وإلى فترة طويلة قادمة على ما يبدو.

ليس من الواضح حتى الآن ما سيكون عليه حال الاتفاق الثنائي حول إدلب، ولا إمكانية استمراره أو صموده لفترة طويلة أو (بشكل دائم!!). ومن الواضح أن الخطاب الغربي يضبط خطابه وسقف مطالبه ورؤيته للحل، على إيقاع المجزرة المحلية المحتمَلة في هذه المنطقة أو تلك، وليس وفقًا لرؤية شاملة للحل السياسي في سورية، وهذا سبب كاف للترقب الدائم، وخصوصًا بعد أكثر من سبع أعوام على أوراق وخطابات سياسية وكلام إعلامي ورؤى غربية للحل أو للتهدئة في سورية. مع ذلك، تبدو إدلب اليوم مرآة لفهم سورية وواقعها ومستقبلها. فهي المنطقة الأخيرة التي ما تزال تضم وتحتضن ثقلًا كبيرًا للمعارضة السورية المسلحة وللحاضنة الشعبية للثورة السورية، ممثلة بالناس الذين تم تهجيرهم من مناطق الغوطة الشرقية وغيرها في الباصات الخضراء الشهيرة. هذا أمرٌ من شأنه أن يقض مضجع الأسد الحالم بعودة سورية كلها إلى حظيرة الطاعة. سيطرَ الأسد على أجزاء كبيرة من سورية، وليس في مناطق سيطرته ما يمكن أن يشكل خطرًا أو إزعاجًا له، بما في ذلك خطابات النقد الموجه إلى محافظ حمص ورئيس بلدية السقيلبية، بعد تدمير كل عمل ثوري ومعارض حقيقي، وتحويله إما إلى حالة لجوء أو إلى اسم ضمن قائمة الوفيات في السجل المدني، أو إلى صمت مطبق داخل سورية حفاظًا على الحياة. في إدلب، باستثناء “القاعدة” ومن لف لفيها، يعيش نازحون هجروا من بيوتهم بتهمة الثورة، ومقاتلون قاتلوا الأسد وخسروا حيواتهم وذويهم ومستقبلهم، لأنهم رفعوا الصوت في مناطقهم في وجه الأسد. كيف لهذا الأخير، كمجرم، أن يتسامح من دمّر الأبد فوق رأسه وأحاله هباء منثورًا؟ وكيف لهؤلاء أن يسامحوا أو ينسوا أيضًا؟

إدلب هي سورية التي انتفضت وثارت ذات يوم، ومستقبلها هو صورة مصغرة عن مستقبل سورية الذي يُرسم اليوم في بعض العواصم هناك، ما وراء البحار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق