مقالات الرأي

تجليات “المأزق التاريخي” في الثورة السورية

تناول العديد من المفكرين والباحثين مفهوم “المأزق التاريخي” العربي، الذي وقف عائقًا أمام تحقيق أطروحات المشاريع النهضوية الكبرى في تاريخنا الحديث، هذا “المأزق” يكمن في بنية القوى الاجتماعية وأركانها الثقافية والمعرفية والبنية الاقتصادية وبنية القوى السياسية المعبرة عنها. وهو يمتد -تاريخيًا- منذ فشل قيام دولة عربية واحدة في مطلع القرن العشرين، إلى عجز وإخفاق في إنجاح مطالب ورؤى ثورات الربيع العربي.

معظم التحليلات والقراءات والمواقف تجاه هذا “المأزق” كانت تُصاغ انطلاقًا من خلفية واحدة، هي توجيه أصابع الاتهام إلى الدول الاستعمارية بأنها تقف وراء كل ما نحن فيه من فوات وتأخر وهزيمة. يقول الباحث وجيه كوثراني، في كتابه (بلاد الشام في مطلع القرن العشرين): “رغم واقعية هذا الاتهام فإنه يبقى منقوصًا، فرغم مصالح فرنسا وبريطانيا في بداية القرن العشرين، والتي تمثلت في تجزئة بلاد الشام، فإن تلك التجزئة الجيوسياسية كان خلفها -أيضًا- ولاءات محلية وإقليمية تضاهي الولاء للعروبة”. وإن “المشاريع التي طرحت لكسر وتجاوز هذا المأزق آنذاك (مشروع الشريف حسين ومشروع الملك فيصل) تمثّل تجسيدًا له أكثر من كونها مشاريع ضده أو في سبيل تجاوزه. فالبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتلك المشاريع كانت بنى قبلية وطائفية وإثنية وأقوامية ذات مصالح متضاربة وولاءات لاوطنية، في ظل اقتصاد منغلق فيما بينها، سمته الأساسية تفاوت الثروة بين الريف والمدينة، أما سياسيًا؛ فإن ممثلي تلك البنى كانوا قبائل وأعيانًا وكبار الملّاك وتجار المدن”.

بعد مئة عام، من خلال مسارات الربيع العربي؛ نرى تجليات هذا “المأزق” ذاتها تتكرر، وهذه المرة بصورة أوضح، إن كان من زاوية بُناه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، أو من زاوية التحليلات والقراءات والمواقف له.

فأغلب التحليلات والقراءات ذهبت إلى أن توافق مصالح قوى “الدول العظمى” يتمثل في بقاء الأسد. وهذا الاتهام واقعي -أيضًا- لكنه منقوص كذلك، فالولاءات التي ظهرت في محطات كثيرة من مسار الثورة السورية -على سبيل المثال- هي ولاءات محلية وإقليمية، تضاهي أكثر بكثير ولاءها للثورة وأهدافها وتطلعاتها. بل في أغلب الأحيان كانت هذه الولاءات مناهضة للثورة ذاتها. فالثورة رفعت شعارات الحرية والديمقراطية ودولة الحق والقانون، وفي المقابل رأينا بكثافة شعارات وممارسات طائفية وقبلية ومذهبية وعشائرية وإثنية، وهذا ما مثلته -أيضًا- القوى التي تنطعت لتمثيل الثورة سياسيًا.

حين نتحدث عن “مأزق تاريخي” قد امتد قرنًا من الزمن -على أقل تقدير- وحال دون تحقيق ما قدّرنا أنه خروج منه، فعلينا اعتبار مهمة الخروج هي الأولوية. لا سيما أن مفاعيله ودينامياته ما تزال حاضرة ومسيطرة، وأن نتائج ومآلات هذه التقديرات كارثية في كل جوانبها، وتعمل على إنشاء عثرة جديدة في وجه تجاوز مأزقنا التاريخي، والأمثلة المؤسفة كثيرة ومتنوعة في تاريخنا الحديث (سايكس بيكو، مقررات سان ريمو، هزيمة حزيران. إلخ). حيث رسخت هذه المواضيع واقعًا أسوأ مما قبله، وفي الوقت ذاته، لم تشكل معطياتها ونتائجها -حتى الآن- مادة “الفهم السياسي” التي من شأنها “وضع الإصبع على الجرح” ومداواته مباشرة، بدل معالجة “آثاره الجانبية”.

إن العمل في هذا المضمار يتطلب وعيًا للذات، وبناءً للهوية، وينتج عنه كيان سياسي يعكسهما. كما يشكل هذا المضمار خطوة على طريق إنجاز نموذج لمفهومي الدولة/ الأمة. فقد كانت انتماءات ما قبل أمة/ دولة -وستبقى- مأزقًا وحاجزًا وعثرة في وجه أي مشروع نهضوي، كما ستبقى إشكالية الهوية هي أم الإشكالات، ولن ينفع معها مشروع قومي أو ربيع عربي، إن لم يكن هذا التحدي التاريخي نصب عينيها وأول أولوياتها. هناك قاعدة بديهية تقول: إن لم تتغير المقدمات فلا تنتظر تغيرًا في النتائج، فمقدماتنا لما تتغير بعد، وإن قسّمنا -حاليًا- هذ المقدمات إلى “ذاتي” و”موضوعي”؛ فسنجد أن “الذاتي” ما يزال خليطًا غير منسجم من ولاءات تقليدية متأخرة، و”الموضوعي” عبارة عن قوى دولية تتربص بنا وتعتاش على مصائبنا وتدفعنا باتجاهها.

الثورة -كشكل من أشكال التغيير، أو كطموح نهضوي- ومنها الثورة السورية، حالها كحال ما سبقها من محاولات للنهضة ودخول ساحة الفعل التاريخي، وإن “المأزق التاريخي” حاضر فيها، وأحد أهم معيقات نجازها، وليس لها أن تُنجز دون وعي، ووعي الذات أولًا، فالثورة التي لا يواكبها وعي -كما رأينا في حالتنا السورية- ستتحول إلى وباء، مهما بلغت تضحياتها وسنينها.

إن الإجابة على سؤال “من نحن؟” هو نصف الإنجاز، وهو بداية الخروج من المأزق، وبداية التشافي من مرضنا الرئيس. فنحن أولى بدراسة إشكاليتنا من عدونا، الذي دأب على دراسة واقعنا وبُنيته وتناقضاته ونقاط ضعفه، بدءًا من ثقافته وأركانها وانتهاءً بسياساته ومآلاتها، لتوظيفها في تعظيم مأزقنا عمقًا واتساعًا من جهة، ولترجمتها إلى واقع ما يزال يخدم مصالحه حتى اللحظة من جهة أخرى. ولعلنا جميعًا ندرك أن الطغم العربية الحاكمة التي ثار الربيع العربي على بعض منها، ما هي إلا نتاج التقاء واقعين: واقعنا المتأخر، وواقع مصالح تخدم أعداءنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق