مقالات الرأي

السخرية القاتلة

نطرَب لتهديدات أميركا، ولكننا نسخر من كلام دونالد ترامب حول إدلب، لا أدري كيف يمكننا أن نرفع سلاح السخرية، بعد كل خساراتنا، إن لم نقل هزائمنا!

نغضب للعناق الحار بين وزير خارجية البحرين ووزير خارجية النظام؛ فنسخر من شكلهما، ونخترع نكاتًا “غير مضحكة” عنهما، كيف تمكنت منا فكرة أن السخرية تعني انتصارًا؟

أزعم أن وليد المعلم قرأ ما لا يُعدّ ولا يحصى من السخرية على شكله على مدى 8 سنوات، ولكنه لم يقرأ ولا “بوستًا” واحدًا عن تركيبة شخصيته، وعن مدى فائدة النظام السوري من وجوده.

بقيت السخرية السطحية سيدة الموقف من العناق، ولم نكترث لتصريحات وزير الخارجية البحريني الذي قال بوضوح: إن “الحكومة السورية (التابعة للنظام) هي الحكومة السورية”، وإنهم يتعاملون “مع دول وليس مع من يسعى لإسقاط هذه الدول”، وإن رأيه ورأي دولته أن “من واجب الدولة السورية السيطرة على كل المدن السورية”، انتهى الاقتباس، ولكن لم ينته أملنا بأبطال السخرية السوريين المعارضين، وبالتأكيد لن يمرّ الأسبوع، قبل أن نملأ الفضاء سخرية من الوزيرين، لإغلاق الملف والانتقال إلى ملف آخر.

غضبنا بشدة من قانون وزارة الأوقاف الجديد، ونشرنا بيانات من بلاد المهجر للتعبير عن رفضنا، وللأسف لم نستطع حتى الآن ممارسة هوايتنا بتسطيح كل المواقف، والسخرية من الحدث، فالقانون أثار قلقًا عظيمًا لدى مثقفي الشتات السوري، ما استدعى تدخلًا عاجلًا بنشر بيانات على صفحات (فيسبوك)، لرفض القرار وللإصرار على ضرورة بقاء علمانية الدولة، إذًا، أين ذهبت سخريتنا اللاذعة من كل ما يصدر عن هذا النظام “اللاشرعي”، فالبيانات الجدية لا تجدي نفعًا. لا بد من بعض السكتشات الكوميدية والفيديوهات التي تشتم وزير الأوقاف ورئيسه، فسخريتنا تُسقط النظام كل يوم.

قبل السخرية، وبالعودة إلى البيان الرافض للقانون، تمرّ عبارة “سأناضل بما أستطيع للوصول إلى هذا الهدف النبيل”، وبالطبع فإن الهدف النبيل هو ديمقراطية ومدنية الدولة، وأما النضال فكلمة عابرة لا يتوقف أحد عندها، إذ كيف سيناضل سوريو الشتات لخدمة الهدف النبيل؟

إذا قبلنا -تجاوزًا- أن نسمّي كل من يسكن في المناطق والمدن التي يسيطر عليها النظام “مؤيدين أو رماديين”؛ فلا بد لنا، مهما اختلفنا في توصيفهم ومهما اختلفنا في رأينا بهم، من أن نعترف بأنهم أكثر شجاعة منا بما لا يقاس، فأولئك الساكنون تحت سيطرة النظام، والعاملون في مؤسسات الدولة، ثاروا قبل معارضي الشتات ضدّ قانون وزارة الأوقاف، ومن المفهوم أن يقولوا إنهم سيناضلون بكل ما أوتوا من قوة ضد ذلك القانون.

هللنا، وما زلنا نهلل، لتظاهرات إدلب، ولم نتعب أنفسنا بمحاولة مقارنتها بالتظاهرات الأولى في سورية، وإنما فضلنا أن ننتشي بالعَلم الأخضر، وبالهتافات التي دغدغت مشاعرنا.

والتظاهرة بالتعريف هي “خروج الناس إلى الشّارع لقول كلمة حقٍّ، ونصر المظلومين، ومطالبة الحاكم برفع الظلم، وإحقاق الحق”. وتظاهرات إدلب تتوفر فيها معظم أساسيات التظاهر السلمي، ما عدا مكون أساسي وهو وجود الحاكم، فالحاكم في إدلب والشمال السوري هو (هيئة تحرير الشام)، وبضعة فصائل متشددة مثل “حراس الدين”، والتظاهرات خرجت مستعيدة هتافات الثورة الأولى التي كانت تنطلق في فضاء يسيطر عليه النظام فعليًا، إذًا، لمن توجهت تلك التظاهرات والهتافات؟

إلى العالم الدولي ربما، وهو ذات العالم الدولي الذي يتهم إدلب بالإرهاب، بسبب وجود الهيئة فيها، وهو ذات العالم الدولي الذي يدعي الغباء والتعامي، عندما تتوافق مصالحه مع الحدث، ولكنه يعود إلى صرامته وتجاهله المدنيين، في أول مفترق طرق ليعلن الحرب على الإرهاب.

خدعَت (هيئة تحرير الشام) المدنيين، وساعدهم كثيرٌ من مثقفي الخارج، وحوّلت التظاهرات إلى ما يشبه الشرعنة لها، خصوصًا بعد أن سمعنا التسجيل المسرب لأحد القادة الأمنيين لـ (هيئة تحرير الشام)، وهو يأمر ويوجه ويحدد قواعد التعامل مع التظاهرات، التي تبدأ وتنتهي بعدم رفع علم الهيئة والانضمام إلى المتظاهرين، لأنهم هم الذين سيحمون الهيئة، وبالطبع فإن الخاسر الوحيد هم المدنيون في إدلب، فهم وحدهم تدغدغت مشاعرهم، وهتفوا بكل صدق، وظنوا أنهم أحرار فعلًا، وهم وحدهم من يهددهم الروس والنظام والهيئة والفصائل المتشددة.

اليوم.. فصائل إدلب بدأت ترفع الصوت برفض الاتفاق الروسي – التركي الذي أجّل المعركة، ولم يجد لها حلًا حقيقيًا، واستطاعت بعض الفصائل، مثل “حراس الدين”، منع التظاهرات في المناطق التي تسيطر فيها، ولا ندري كم من الأسابيع يملك القاطنون في إدلب للخروج في تظاهرات، وكم من الشعارات ما يزال موقعو البيانات والرافضون لقانون وزارة الأوقاف، كم من الشعارات يملكون لتحية تلك التظاهرات، وكم من الفصائل ستوقع اتفاقات للخروج بأمان مع عائلاتهم.

اليوم، اللاجئون يعودون إلى سورية، من دون ضمانات، ودون أي تعهد ولو كان شفهيًا، والعالم يحيّي بشار الأسد ويدعمه في مشروع إعادة اللاجئين، لأن مصلحة العالم الغربي تكمن أولًا في عودة اللاجئين غير المرغوب فيهم.

اليوم، وزير الخارجية البحريني عانقَ وزيرَ خارجية النظام السوري وشدّ أزرَه، والعلاقات العربية بدأت تجاهر باقتناعها بصلاحية بشار الأسد لحكم سورية ولبقائه في الحكم، بعد أن حصلت المعارضة السورية يومًا ما على كرسي سورية في الجامعة العربية.

اليوم، التسول العاطفي يتحكم في الإعلام المعارض، وكأن الثورة السورية تحوّلت من ثورة للحرية إلى ثورة للمّ التبرعات والجهاد في سبيل تصوير العذابات. اليوم، المعلومات غائبة، والإرادة الحقيقية للوقوف أمام المرآة غير موجودة. اليوم، نعتقد أننا سنسترجع مدننا وأمواتنا ولاجئينا بالنكات والسخرية، ونؤمن بأننا نستطيع، بالسخرية، إقناع المؤيد الذي لم تقنعه كل المجازر التي ارتكبت على مدى 8 سنوات.

اليوم، تحوّل موضوع المعتقلين إلى مناسبة لتغطية إعلامية، وأداة جوهرية للتباكي، وتحول الاغتصاب إلى سباق في كمية تفاصيل الاغتصاب، وبقيت المغتصبات بلا مدافعين حقيقيين عنهن، في وجه المجتمع الذي ظلمهن ولم يقبل إنصافهن، وتحولت حكاياتهن إلى مادة إعلامية لا أكثر، من دون خطوات جدية للتواصل مع المنظمات الانسانية لاحتواء تلك الفتيات.

اليوم، ربحنا حرب البيانات، وحرب السخرية، وفقدان الجمهور، وغياب المصداقية، وانفصال المثقف عن مجتمعه، ولكن، مع كل خساراتنا تلك، ما زال لدى المتظاهرين في إدلب، والمهجرين إلى إدلب، واللاجئين في لبنان والأردن، بعض الأمل في السوريين، يتجاوز التصفيق الذي نمارسه، والسخرية التي تُضعفنا وتقوي عدونا. ربما يكون الأمل الحقيقي في وقوفنا أمام مرآة أنفسنا، والاعتراف بما حدث، للتخطيط لما يمكن أن يحدث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق