تحقيقات وتقارير سياسية

عدم إعمار سورية أم تفريغها أم شطبها

تلاقت في الأيام الأخيرة الخطوط العامة للاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه سورية، ويمكن اختصارها بجملة مفيدة واحدة هي إلغاء سورية شكلًا ومحتوى، فمن ينظر إلى الحال التي وصلت إليها سورية؛ يُدرك أو يشعر على الفور أن سورية ما قبل آذار/ مارس 2011 لم تعُد قائمة، وأن حجم الدمار، وحجم التهجير القسري لشعب كامل، ليس له مثيل في تاريخ سورية، ولا في تاريخ أي بلد عربي أو إسلامي، هذا فضلًا عن الشرخ العمودي الفظيع الذي نال من نفوس السوريين، بفعل الشحن الطائفي الذي مارسته غرف عمليات إعلامية، تتبع ميليشيات طائفية إيرانية وسورية وروسية بشكل أساسي، قابلتها غرف دعاية طائفية تتبع ميليشيات تُقاتل النظام وإيران.

من حيث الشكل، سورية اليوم هي إقليمان: شرق الفرات وغربه، ومن حيث المحتوى فإن إقليم غرب الفرات أو “سورية المفيدة” كما يُسميها الروس والإيرانيون، أو “سورية المتجانسة” كما يُسميها عباقرة الأمن السوري، لم تعد ذا محتوى، لقد أصبحت سورية صورةً لهيكل عظمي نُهش أكثر لحمه، وسُحب ثلاثة أرباع دمه، وعلى ذلك؛ يجب استبدال تسمية “سورية المفيدة” بسورية منتهية الصلاحية، وإلا فماذا يُفهم من ثلاثة تصريحات أميركية وأممية، إضافة إلى بيان حقوقي، صدرت كلها خلال أسبوع واحد، وتنتهي كلها إلى محصلة واحدة هي أن سورية باقية على حالها كخرابة كبيرة، إلى أمد غير معلوم.

وثيقة أميركية للحل في سورية

بدات حزمة المواقف هذه بتسريب وثيقة إعلان مبادىء من المجموعة المصغرة من أجل سورية، التي تضم أميركا وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن، تضع خطوطًا عريضة لحل النزاع في سورية، والوثيقة واعدة وجيدة لا سيما في ما يخص تقليص صلاحيات الرئيس وزيادة صلاحيات رئيس الوزراء، لكن القسم الخاص من الوثيقة الذي يتحدث عن إعادة الإعمار وربطه بالانتقال السياسي، يعني استمرار معاقبة الشعب السوري، دون الضغط على النظام وإيران والروس، مثلما عاقبوا هذا الشعب بالحصار الاقتصادي بذريعة معاقبة النظام، بل توعّد جيم جيفري ممثل الولايات المتحدة الجديد بشأن سورية بجعل سورية غير قابلة للعيش، في حال لم يخضع النظام والروس. وهذا طبعًا أمرٌ لا يُبشّر السوريين بالخير، وهو جزء من الخطة الدولية لإلغاء سورية وشعبها، فالنظام كأفراد وقيادات لن يتضرروا من أي عقوبات، لأن لديهم خطوطَ دعم وأموالًا كافية في بنوك غربية، وهم متمرسون بالتلاعب، لكن المتضرر الوحيد من الوعود والضغوط الأميركية هو الشعب السوري.

المادة الثالثة من المبدأ الثاني في الوثيقة خطيرة؛ لأنها تعني أن سورية لن تُبنى ولن يعود أحدٌ إلى بيته المدمر إلا إذا تحقق الانتقال السياسي والإصلاح الدستوري والانتخابات بإشراف دولي، أي أن موضوع إصلاح سورية وإزالة الخراب معلّق بالصراع والتفاوض الدولي، بين أميركا وروسيا وغيرهما، وعلى الشعب السوري أن يتحمل وزر النظام الذي دمّر، ووزر الصراع الدولي الذي يمنع الإعمار ويربطه بالانتقال السياسي، دون أن يوجِد هذا الانتقالَ السياسي.

أميركا لن تُجبر الأسد على الرحيل لكيلا يُعاد إعمار سورية

بعد تسريب الوثيقة بأيام، أعلن نائب وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد أن لن يكون هناك أي عمل لعودة اللاجئين أو إعادة الإعمار، في ظل وجود الأسد، ولن يكون هناك اتصال بالنظام عن طريق أي منظمة دولية.

تقاطع التصريح الأميركي عن إعمار سورية بشرط عدم وجود بشار الأسد، مع تصريح مسؤول أممي رفيع يوضح التصريح السابق، ومفاده أن إعمار سورية سيستغرق خمسين عامًا، أما ثالثة الأثافي فهي تصريح نيكي هايلي المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، وهو بمثابة الفضيحة، إذ تقول فيه حرفيًا: إن “أميركا لن تُجبر بشار على الرحيل”، وهو ما يؤكد -بما لا شك فيه- أن لا إعمار ولا بناء، وأنّ سورية غرب الفرات ستبقى على حالها: مدن وبلدات مخربة مهجورة، عقودًا عديدة.

في الأثناء، صدر بيان جديد عن مجموعة من الحقوقيين الدوليين المعروفين، بينهم السفير الأميركي السابق لجرائم الحرب ستيفن راب، والمدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا جيفري نيس، ومفوض الأمم المتحدة السامي السابق لحقوق الإنسان نافي بيلاي، يضع عشرة شروط من أجل القبول بإعادة الإعمار، ويُعد هذا البيان بمثابة تحذير لأي جهة أوروبية من أي تعاون أو مشاركة لروسيا أو بقايا النظام السوري في مسعى إعادة الإعمار.

يجب التدقيق في هتافات التظاهرات وعناوين الجُمع

المفارقة اللافتة هي عودة معارضين وناشطين سوريين لسيرة قديمة مزمنة، فجهة ما في المعارضة سمّت تظاهرات إحدى الجمع الأخيرة، في إدلب وبعض المناطق المحررة، جمعة (لا دستور ولا إعمار حتى يرحل بشار)، ولا ندري سبب هذا التوافق العجيب بين هذه التسمية المسجوعة، وبين ما ذهبنا إليه من موقف أميركي مُعلن تجاه مستقبل سورية.

ربما لم ينسَ مئات آلاف المعارضين والناشطين السوريين مشكلةَ العناوين التي كانت تُطلقها على تظاهرات الجمعة صفحة (الثورة السورية ضد بشار الأسد)، وهي عناوين قدّمت الثورة السورية، وكأنها ثورة إسلامية للأسف.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق