مقالات الرأي

هل فشلت إحدى منظمات “الإسلام الوطني الديمقراطي” في أول امتحان؟

بعد أن قرأ مقالتي “في إمكانية وجود تيار إسلام وطني ديمقراطي في سورية” (جيرون 12 تموز/ يوليو 2018)، قال لي صديقي، المخرج المبدع هيثم حقي: “انت رجل دبلوماسي، تريد أن تبني جسورًا مع من تختلف معهم في كل شيء تقريبًا… هؤلاء يقولون ما لا يفعلون، هم يتحدثون عن الديمقراطية والتعددية والدولة المدنية، إلى أن يستلموا السلطة. ومتى تمكنوا منها؛ فسيفرضون دولتهم الدينية التي لا مكان فيها للعلمانيين أمثالنا”.

ما حدث في تونس خلال الشهر الفائت، ربما يعدّ دليلًا على صحة رأي هيثم.

عرض الباجي قائد السبسي، رئيس الجمهورية التونسية، اقتراحًا بطرح مشروع قانون أمام البرلمان التونسي، يقرّ المساواة بين المرأة والرجل في الإرث. وجرت مناقشات حامية بين مؤيدي المشروع ومعارضيه، ومنها ما جرى داخل حركة النهضة التونسية، التي أوردتُها في مقالتي المذكورة، كأحد الأمثلة على تيار “الإسلام  الوطني الديمقراطي” أو “ما بعد الإسلام السياسي”. وكنت أعتقد، من خلال متابعتي لبعض أدبيات النهضة ومن خلال نزعتي المتفائلة بوجه عام، أن حركة النهضة ستوافق على المشروع، وستبرهن بذلك على حقيقة ما توحي به توجهاتها المعلنة من عدم تمسكها بالنصوص، وتغليبها الاجتهاد فيما يتعلق بالأوضاع الاجتماعية المتجددة، التي لم تكن قائمة أيام الدولة الإسلامية الأولى، حيث فسرت نصوص “القرآن والسنة قطعية الوثوق”، بما يتلاءم مع واقع مجتمعات ذلك الزمان.

لكنني فوجئت بأن حركة النهضة رفضت المشروع، ولم يتسنَّ لي الاطلاع على تفاصيل الحيثيات التي اعتمدتها الحركة في رفضها. هناك احتمالان: إما أن يكون التيار المتشدد، الذي يصر على أن “لا اجتهاد فيما ورد فيه نص”، هو الذي انتصر في هذه المعركة المهمة، أو أن تكون “البراغماتية”، التي عرفت بها النهضة، قد أدت بها إلى هذا القرار، بافتراض أن “الرأي العام” في المجتمع التونسي لن يوافق على مثل هذا التوجه. وسأحاول مناقشة كل من الاحتمالين.

كنت قد أشرت، في مقالتي السابقة، إلى أن هناك قراءات متعددة للإسلام، وبخاصة للشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وأن هذه القراءات المختلفة لا تقتصر على أصحاب المذاهب المتعددة (سنة، شيعة، علويين، زيديين…) ولا على التيارات ضمن المذهب الواحد، بل إن الفقيه الواحد قد تتغير تفسيراته ورؤاه و”فتاواه” تبعًا لتغير الأوضاع السياسية والاجتماعية المحيطة به. وهناك مفكرون إسلاميون يتمسكون بالنص القرآني، لكنهم يفسرونه بمعاني مختلفة عن تلك التي تعتمدها المؤسسات الدينية الرسمية (انظر مثلًا مقاربات نصر حامد أبو زيد أو الصادق النيهوم أو محمد شحرور … للنصوص القرآنية، بما فيها تلك التي يعدها بعض الفقهاء قطعية الدلالة).

لنأخذ مثلاً الآية المشهورة {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} النساء/3. قرأت تفسيرات عديدة لهذه الآية، كلها تؤكد أحقية الرجل بالزواج من أكثر من واحدة، ومعظمها يُرجع الأمر إلى رواية عن عائشة أم المؤمنين، تفسر أسباب نزول الآية، بأن رجلًا غنيًا رعى يتيمة جميلة ثم تزوجها من دون أن يقسطها مهرها، فنزلت الآية المذكورة.

وإليكم نماذج من هذه التفسيرات:

  • سأل بعض التابعين –وهو عروة بن الزبير- هذا السؤال، فأجابت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها :(يَا ابْنَ أُخْتِي! هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا، تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا لَهُنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاق، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ).
  • “وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله”: وقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ…) أي: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثير ، ولم يضيق الله عليه”.
  • فنهى الله عز وجل هؤلاء الرجال إذا ظنوا أنهم لن يُقسطوا في اليتيمات اللاتي تحت وصايتهم فيهضموا شيئًا من مهورهن إذا تزوجوا منهن: نهاهم عز وجل أن يتزوجوا منهن، وأمرهم أن ينكحوا ما طاب لهم من غيرهن من النساء مثنى وثلاث ورباع”.

لكن ما رأيكم بتفسير محمد شحرور: في اللغة العربية هناك الشرط والجزاء (أو فعل الشرط وجواب الشرط)، الشرط في الآية هو الخشية من عدم القسط في اليتامى، والجزاء السماح بالزواج بأكثر من  واحدة. أي أن شرط السماح بتعدد الزوجات هو وجود يتامى. وفي تلك الأيام تعددت الحروب والغزوات وكثرت الأرامل واليتامى، فكان السماح بالتعدد حلًا لمشكلة اجتماعية وإنسانية تتعلق بالعناية باليتامى وأمهاتهم. التفسير هنا يركز على شرط وجود يتامى، والخوف من عدم حصولهم على ما يكفيهم لعيش كريم. عندئذ فقط يمكن للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة. وبما أن هذا الشرط لم يعد متوفرًا، فإن الجزاء غير وارد.

ومن الطريف أن عامة الناس، عندما يتحدثون عن “شرعية” تعدد الزوجات، ينسون القسم الأول من الآية (الشرط)، ويذكرون فقط الجزاء “فانكحوا ما طاب لكم..”، ولا يتساءل أحدهم لماذا حرف الفاء في أول الآية.

وبالمناسبة، القانون التونسي يمنع تعدد الزوجات من أيام الحبيب بورقيبة. كما أن في الآية نفسها حُكمًا تم إلغاؤه في جميع البلدان الإسلامية قانونيًا، من دون أن يقول أحد إن الإلغاء يخالف نصًا قرآنيَا. وهو “أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ“. فالمقصود هنا الإماء (النساء من العبيد). فمن أين نأتي اليوم بملك اليمين من النساء لينكح الرجال ما طاب لهم منهن، بعد أن ألغت قوانينُ جميع بلدان العالم الرقَّ؟ وإذا كان أحد أحكام الآية المشار إليها قد ألغي، فلم لا يلغى الحكم الآخر؟

قصدت القول من هذا المثال، الذي ربما بدا شرحه مطولًا، إن النص القرآني “حمال أوجه”، وإن بالإمكان تجاوز حكم ورد في نص قرآني، إذا تجاوزه الواقع التاريخي. وإن المعيار الحقيقي لصدق ما تعلنه تيارات الإسلام الوطني الديمقراطي هو هنا بالتحديد: القدرة على تأويل النص والاجتهاد في تفسيره، بما يلائم التطورات المتسارعة في المجتمع، ولمصلحة جميع الناس، ولا سيما الضعفاء والمهمشين منهم.

أما إذا كان قرار حركة النهضة، برفض المساواة في الإرث بين النساء والرجال، ناجمًا عن الخشية من عدم قبول الرأي العام التونسي (رأي الرجال بالطبع)، “فالمصيبةُ أعظمُ”. ذلك أن على الحركة السياسية، وبخاصة تلك التي تتبنى عقيدة معينة وتسعى لتوعية الناس بمبادئها، أن تقود الرأي العام بالاتجاه الصحيح لا أن تسير خلفه. هذا يدل على انتهازية سياسية على حساب العقيدة والمبادئ.

أيًا كان سبب رفض حركة النهضة التونسية مساواة النساء بالرجال في الإرث، فإنها، مع الأسف، فشلت في امتحان انتمائها إلى ما يسمى تيار “الإسلام الوطني الديمقراطي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق