تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

حوض شرق المتوسط.. الصراع ما بعد سورية

تتجه الأزمة السورية، بالرغم من بطء حركتها، صوب عملية تسوية تتولى روسيا المُوكلة من الغرب الذي سيطر على حقول النفط في سورية، دفة قيادتها. فعلى الأرجح، تنتظر مدينة جنيف السويسرية اجتماعًا دوليًا يوقع على التسويات التي وصلت إليها روسيا حول عملية التسوية، وقد يجري عليها بعض التعديلات عليها، في حال كانت على غير هوى الفواعل الدولية.

لكن بتحرك مقاتلات “إسرائيل” نحو استهداف مواقع تابعة لإيران والنظام السوري في مدينة اللاذقية، بالتزامن مع اقتراب سفينة فرنسية وبعض السفن التابعة لحلف (الناتو) من المياه الإقليمية لسورية، ظهر على السطح مؤشر مهم حول نقطة الصراع الدولي المستقبلية في منطقة الشرق الأوسط، وهي حوض شرق البحر المتوسط. والتساؤل الأساسي للمقال هو: لماذا يشكّل حوض شرق البحر المتوسط بؤرة صراع دولي محتمل بعد سورية؟

إن السبب الأساس وراء توقع أن يتحول حوض الشرق البحر المتوسط إلى بؤرة الصراع المستقبلية، يكمن في محاولة عدة دول إقليمية وأخرى كبرى وغيرها عظمى استغلال الموارد الطبيعية الموجودة فيه، لا سيما الغاز الطبيعي الذي بات يُشكّل بديلًا مهمًا للنفط، نظرًا إلى رخص ثمنه، ونظافته في الاستخدام، وقدرته على التحوّل إلى سلاح سياسي، يمكن استغلاله كورقة في كسب الشرعية على الساحتين الإقليمية والدولية وبناء التحالفات.

بحسب دراسة لمركز الجزيرة للدراسات، بعنوان (النزاع على الغاز في شرق المتوسط ومخاطر الاشتباك)، يُقدر احتياطي حقول الغاز في منطقة حوض شرق البحر المتوسط بـ 122 تريليون م3. ووفقًا للدراسة ذاتها، فإن الحوض يحوي احتياطيًا من النفط يبلغ تقديريًا 107 مليارات برميل.

لقد تم إلى الآن اكتشاف عدة حقول في الحوض، من قبيل غزة مارين (أراضي السلطة الفلسطينية)، تمار وليفياثان وتانين وكاريش  ورويي (إسرائيل)، أفروديت (قبرص)، ظُهر (مصر). ويُتوقع أن يُكتشف المزيد، في حال أقدمت تركيا على التنقيب عن الغاز في محيط قبرص التركية، وفي حال تم إنهاء الأزمة السورية، وبدأت عملية التنقيب في المياه الإقليمية لسورية.

وانطلاقًا من حالات الخلاف الموجودة أصلًا بين دول الإقليم، تزيد المنفعة السياسية والاقتصادية التي توفرها هذه الحقول حدةَ هذا الخلاف، وتشعله بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”؛ حيث تحرم الأخيرة السلطةَ الفلسطينية التي اكتُشف الغاز في الحوض لأول مرة في أراضيها، وبين تركيا وقبرص اليونانية المدعومة من قبل اليونان و”إسرائيل” ومصر؛ في ظل التنازع حول السيادة بين قبرص التركية المدعومة من تركيا، وقبرص اليونانية المدعومة من قبل الدول المذكورة أعلاه، وفي ظل رفض تركيا لاتفاقات ترسيم الحدود بين قبرص اليونانية ودول الحوض الأخرى، وبين لبنان و”إسرائيل”؛ حيث تُريد الأخيرة أن يتم اعتماد خط الحدود البري بحريًا، ما يشمل البلوك 9 من الحقول، وهذا ما ترفضه لبنان التي ترى عدم قانونية الأمر، وبين لبنان وسورية التي رفضت سابقًا ترسيم حدودها مع لبنان.

ويكاد عدم توقيع كل من سورية وتركيا و”إسرائيل” على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، عاملًا يزيد من الخلاف الإقليمي بين الأطراف. إذ يُحدد قانون البحار المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل دولة بحدود 200 ميل. وهذا ما يُوجد حالة من التداخل بين مناطق دول الإقليم الاقتصادية التي يصبح تحديدها غير ممكن إلا من خلال اتفاقات توافقية بين الدول.

دوليًا، يحاول الاتحاد الأوروبي التخلص من الخطط الروسية المترسخة في سياستها الخارجية، والقائمة على هدف التحوّل إلى مصدر أو مُتحكم أساس في توريدات الطاقة للاتحاد الأوروبي، في سبيل كسب ورقة ضغط دبلوماسية ضده. وفي إطار ذلك، تسعى روسيا لتثبيت أقدامها الأمنية والدبلوماسية في عدة مناطق جغرافية في المنطقة، بواسطة النفوذ الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي الذي يقوم عبر إتمام مشاريع لتوريد الأسلحة الروسية المتطورة، وتوقيع اتفاقات دفاع مشترك، وإبرام عقود بين الشركات الروسية ودول المنطقة.

هذه السياسات الروسية الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوأمنية التي باتت تشمل أغلب دول المنطقة، كلّ على نحوٍ مختلف، تُثير حفيظة دول الاتحاد الأوروبي التي تسعى لتنويع مصادر توريد الطاقة، بما يُعفيها من الاعتماد شبه الكامل على الغاز الروسي. إذ يُشكّل غاز ونفط الحوض، بديلًا مهمًا بالنسبة إليها، لا سيّما في ظل قربه الجغرافي. كما تؤثر السياسة الروسية المُنطلقة من استراتيجية “الأوراسيانية” التي تعني وصول روسيا إلى أهم أحواض المياه الدافئة الزاخرة بالطاقة، والمُطلة على طرقٍ تجاريةٍ دوليةٍ مهمة، في نفوذ حلف (الناتو) البحري، لا سيما بريطانيا التي تملك قاعدة عسكرية في جزيرة قبرص، وإيطاليا التي ترمي للاستفادة من أكبر قدر ممكن من امتيازات استخراج النفط عبر شركاتها، وبالأخص على السواحل المصرية الليبية المحاذية لها. فتطبيق روسيا لاستراتيجياتها المذكورة يؤثر سلبًا في ميزان القوى القائم لصالح هذه الدول منذ زمنٍ بعيد.

من جانب آخر، ترغب الولايات المتحدة، على الأرجح، في اقتطاع حصتها، والاستمرار في حماية أمن “إسرائيل”، مما يزيد من احتدام الصراع. كما تزيد الصين الرامية إلى السيطرة على عدة موانئ مُطلة على الحوض من حدة التنافس داخل الحوض.

في المحصلة؛ يوحي التداخل العميق المذكور أعلاه باحتمال كبير لتربع حوض البحر المتوسط على عرش أزمات منطقة الشرق الأوسط، بعد الأزمة السورية. وما يزيد تعقيد هذه الأزمات، هو وجود حالة توافق وخلاف نسبيين بين دول الحوض؛ فعلى سبيل المثال، بينما تتوافق تركيا مع “إسرائيل” لنقل غاز الأخيرة نحو الاتحاد الأوروبي، يختلف الطرفان حول تقسيمات الغاز القبرصي، “فإسرائيل” لا ترغب في أن تتحكم تركيا في تمديدات الطاقة في المنطقة، على نحوٍ يجعلها، أي تركيا، ممسكةً بورقة ضغط على أغلب دول المنطقة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق