مضى ربع قرن على اتفاق أوسلو، وما برحت القضية الفلسطينية تتدحرج من سيئ إلى أسوأ. ليس فقط بسبب فائض القوة لدى “إسرائيل”، وعنصرية حكومة اليمين الإسرائيلي، وانحدار أغلبية المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين والعنصرية، بل أيضًا بسبب الأخطاء الفادحة للنظام السياسي الفلسطيني، والفساد، والانقسام العمودي بين سلطتي رام الله وغزة، وفشل كل محاولات “المصالحة”، وتغليب المصالح الفئوية على المصلحة الوطنية… في الوقت الذي تمضي فيه “إسرائيل” في قضم الأراضي، وبناء المستوطنات، والطرق الالتفافية، وفرض الحصار، وتغيير الوقائع على الأرض، ومطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة، أي تكريس شرعية الرواية الصهيونية، وطمس الرواية الفلسطينية، من دون الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال منذ سبعين عامًا.
إذا أضفنا إلى ذلك تدهور النظام العربي، والكوارث التي حلّت بالشعوب العربية، بفعل أنظمة الاستبداد والقهر، وتسابق بعض الأنظمة العربية، بالسرّ والعلن، إلى التطبيع مع “إسرائيل”، لنيل رضاها، ورضى حليفها الاستراتيجي الأميركي، الذي أعلن مؤخرًا عن “صفقة القرن”؛ فبإمكاننا إدراك حجم المخاطر، والتحدّيات المقبلة.
صحيحٌ أنه لم يتم الإعلان بشكل رسمي عن محتوى تلك الصفقة، باستثناء بعض التسريبات من هنا وهناك، بيد أن سلسلة الإجراءات الأميركية والإسرائيلية التي بدأت تُنفذ، تعلن بصفاقة أنهم ماضون فعليًا في تطبيقها. السؤال: أين هو الطرف الآخر (العربي والفلسطيني) من هذه الصفقة؟!
قطع ترامب بدايةً شعرة معاوية، التي حافظ عليها كل الرؤساء السابقين في البيت الأبيض، ووقّع على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، أي شطبها عمليًا من دائرة التفاوض مع الفلسطينيين، مع الإقرار باعتبارها “عاصمة إسرائيل الأبدية”. اعتبرت السلطة الفلسطينية، بعد ذلك الإجراء، أن الولايات المتحدة لم تعد وسيطًا “نزيها” في عملية السلام، وقاطعت اللقاء مع مسؤولين أميركيين، وتوجهت إلى منظمات المجتمع الدولي لرفضه، فقامت الولايات المتحدة بإغلاق ممثلية (منظمة التحرير الفلسطينية) في واشنطن. الأمر الذي يستهدف مباشرةً كيان منظمة التحرير، باعتبارها الممثل الشرعي لكلّ الفلسطينيين في الداخل والخارج، ومن ثمّ خطت خطوة أخرى بقطع معوناتها المالية عن (أونروا) التي تقدّر بربع ميزانية هذه المنظمة الأممية، في إشارة تعني البدء في تصفية قضية اللاجئين، وشطب حق العودة على المدى الأبعد.
من الجانب الآخر، أقرّت “إسرائيل” في الكنيست قانون القومية العنصري، الذي يكرّس يهودية الدولة، ويستهدف التمييز تجاه فلسطيني الـ 48، وكأنهم طارئون على هذه الأرض، وليسوا سكّانها الأصليين.
كل ما أسفر عنه اتفاق أوسلو هو قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في مناطق (أ)، ذات الكثافة السكانية، وبذلك تخلّصت “إسرائيل” من عبء السكان، وأبقت فعليًا على الاحتلال، ثم بدأت المماطلة، والتهرّب من الوصول إلى اتفاق حول قضايا الحل النهائي (القدس.. اللاجئين.. الحدود.. المياه…) خلال خمس سنوات، كما جاء في الاتفاق، وقيام دولة فلسطينية إلى جانب “إسرائيل” في الأراضي المحتلة عام 67، وعاصمتها القدس الشرقية. أي بعد أن تنازل الفلسطينيون عن حقهم بأرضهم التاريخية، وقبولهم بـ 27 بالمئة من هذه الأرض.. وجدوا أنفسهم بعد ربع قرن في أسوأ وضع كارثي حلّ بقضيتهم الوطنية، منذ بدء صراعهم مع الحركة الصهيونية؛ لأن الطرف الآخر لم يمنحهم أي شيء مقابل اعترافهم بـ “إسرائيل”، وحقها بأكثر من 70 بالمئة من أرضهم التاريخية.
من المؤذي حقًا للمشاعر الوطنية والإنسانية، أن نستعرض مجرد استعراض ما جرى على أرض الواقع منذ اتفاق أوسلو، ولو من باب التذكير، لأنه ملموس، وفاقع للعين، ومعروف لأصحاب الأرض الذين يكتوون يوميًا بنتائجه المدمّرة. فعلى الرغم من كل مناكدات وتسويفات ما يسمّى عملية (السلام)، مضت “إسرائيل” بشكل منهجي في تغيير الوقائع على الأرض، غير آبهة لا بالاتفاق الذي وقعته، ولا بالمرجعيات الدولية، والقانون الدولي، حيث بنت جدار الفصل العنصري، وفصلت القدس عن محيطها الطبيعي، وضاعفت الاستيطان عشرات أضعاف ما كان عليه قبل الاتفاق، وحوّلت التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية إلى “بانتوستانات” محاصرة ومعزولة عن بعضها، وانسحبت من قطاع غزة للتخلّص من عبء هذا الخزّان البشري الهائل، لكنها استمرت في محاصرته برًّا وبحرًا وجوًا، وتركته لمصيره المجهول!
بعد انتفاضة الأقصى، وحصار عرفات في المقاطعة، واتهامه بأنه “لم يعد شريكًا ذا صلة بعملية السلام”، ثم اغتياله في ظروف غامضة؛ وصل أبو مازن إلى رئاسة السلطة الفلسطينية، والرجل معروف تاريخيًا بأنه مع نظرية “اللاعنف”، وبراغماتي من طراز رفيع، حيث وافق على التنسيق الأمني مع “إسرائيل”، وعمل على نزع الغطاء عن “المقاومة والكفاح المسلّح” وشرعيته، واستبداله بالمقاومة الشعبية السلمية، وظلّ متمسكًا بعملية السلام وحلّ الدولتين، ووصلت مرونته إلى حدّ القبول بتبادل في الأراضي، وتوجه إلى المجتمع الدولي، والأمم المتحدة ومؤسساتها، من أجل المطالبة بالحدّ الأدنى الذي قبلت به السلطة الفلسطينية، لكنه رغم كل ذلك وصل هو الآخر إلى طريق مسدود، ولم يعد بنظر حكومة اليمين الإسرائيلي أيضًا “شريكًا ذا صلة بعملية السلام”.
من جهتها، رفضت حركة (حماس) وبعض الفصائل اتفاقَ أوسلو، وتمسكت بحق المقاومة المسلحة، لكنها بعد عدة حروب واجتياحات لقطاع غزة، وصلت هي الأخرى إلى طريق مسدود، وأصبحت “المقاومة” مجرد شعارات خلبية، بعد أن استمرأت (حماس) طعم السلطة، وتعمّق الانقسام السياسي والجغرافي بين غزة والضفة، الذي استغلته “إسرائيل” أبشع استغلال، بذريعة أنه لا يوجد شريك فلسطيني في عملية السلام.
الأمر المثير للريبة والشك حقًا، أن كل النداءات التي أطلقتها، وما تزال، النخب الوطنية والجماهير الفلسطينية لسلطتي الضفة وغزة، من أجل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وإنهاء الانقسام، وإعادة الاعتبار إلى دور (منظمة التحرير الفلسطينية)، والعمل على بناء استراتيجية وطنية، لمواجهة خطر الاستحقاقات القادمة، بعد إطلاق (صفقة القرن)، لم تجد آذانًا صاغية لدى السلطتين.
السؤال: على ماذا يعتمدون، طالما أن مصير القضية كله بات على المحك، واللعب أصبح على المكشوف؟!
ثمة ضغوط تُمارس على النظام الأردني، الذي يعاني بدوره أزمات اقتصادية، واجتماعية، وتهديدات أمنية، لدفعه إلى القبول بضم ما تبقى من أشلاء الضفة الغربية، ذات الكثافة السكانية على شكل “كونفدرالية”، مقابل وعود هلامية في تحسين أوضاعه الاقتصادية. من جهة أخرى ثمة تلميحات إلى سلطة (حماس) وفلسطينيي غزة، باعتبارها المكان المناسب لقيام الدولة الفلسطينية المنشودة، مع بعض العمليات التجميلية، بإضافة مساحات لها من سيناء، ووعود بتحويلها إلى “سنغافورة” الشرق الأوسط، بمعنى آخر: تعتمد تلك السيناريوهات على وعود للفلسطينيين بالمن والسلوى، في حال أنهم انخرطوا في “صفقة القرن”، التي تباركها، كما يبدو، في السرّ والعلن، معظم الأنظمة العربية، التي باتت ترغب في تصفية القضية الفلسطينية نهائيًا.. في هذا السياق حلف (الممانعة)، الذي دمرّ المخيمات الفلسطينية في سورية ولبنان، وشرّد اللاجئين الفلسطينيين، هو مجرد ظاهرة صوتية، وشريك فعلي في هذا المشروع.
لعل نافذة الضوء الوحيدة في هذا المشهد المأسوي، أن قضايا الشعوب المصيرية لا تحل دون إحقاق الحق، بالرغم من تكالب الغربان من كل صوب وحدب، فالصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع ممتد، وسيبقى جرحًا مفتوحًا، ولن يتحقّق السلام والاستقرار في هذه المنطقة من العالم، دون حلّ عادل لهذه القضية، مهما طال أمد الصراع!