مقالات الرأي

هيروشيما ومبادرة الحوار بين السوريين

مع أنني زرتُ اليابان مرارًا، وكتبت طويلًا عن المعجزة اليابانية في التكنولوجيا والنظام والعمل، فإنني أكتب اليوم في أفق آخر تمامًا، وهو رسالة السلام الاجتماعي التي حققتها اليابان، دولة وشعبًا وقانونًا، وهو ما كان جوهر الرسالة التي قصدتها الحكومة اليابانية، بإطلاق مبادرتها الجديدة للحوار بين السوريين، انطلاقًا من هيروشيما لدراسة تجربة الحرب والسلام في اليابان.

لم يخطر في بالي، وأنا أذهب إلى مدينة هيروشيما مع الفريق السوري من المعارضة والنظام الذين دعتهم الخارجية البريطانية، أنني سأحصل في هيروشيما على أعمق دروس السلام، وهي التي باتت ترتبط في الذهن العالمي بأفظع مجزرة إنسانية في التاريخ، وأصبحت رمزًا للحرب والموت والأسى والفظائع.

جونكو سيدة يابانية رائعة من هيروشيما، في الثمانين من عمرها، نجت قبل ثلاثة وسبعين عامًا من القصف النووي لهيروشيما، وفقدت عددًا من أفراد أسرتها في جحيم القصف النووي.

نحو خمسين رجلًا وامرأة، من الشهداء الأحياء الذين نجوا من المجزرة، يتطوعون يوميًا للقاء الناس القادمين إلى متحف هيروشيما، ليحدثوهم عن المأساة الإنسانية المتوحشة، ولكن ما يدهشك أنهم يستقبلونك بابتسامتهم وفرحهم، ويبدؤون برواية الحكاية من شهاداتهم ومعاناتهم، وعلى ما فيها من الأسى، فإنهم يظلّون يقرؤون لك دروس الأمل والبشارة والقيام بعد السقوط والرجاء بعد اليأس.

لم تذكر السيدة الرائعة التي رافقتنا سائر النهار أيّ كلمة عن أعداء اليابان، والتآمر الكوني على اليابان، والتوحش الإجرامي على اليابان، لقد كانت تتحدث فقط عن لعبة الحرب العابثة التي مارسها اليابانيون قبل الكارثة، وانخرطت فيها القيادة العسكرية اليابانية ستين عامًا، قبل الحرب، وأدت إلى تعسكر الشعب الياباني وتحوله إلى بعبع يخيف جيرانه.

لم يكن حديث السيدة اليابانية رأيًا شخصيًا يخصها، أو نسكًا دينيًا بوذيًا تؤديه في المسامحة والغفران. وإن ما هو مدهش حقًا لغةُ القوم في خطابهم الرسمي، وفي بنائهم الأكاديمي لشعب كامل، بات لا يعرف مصطلح الحرب إلا في كتب التاريخ، وصارت حياته طافحة بالسلم والأمن إلى حد بعيد.

في متحف هيروشيما الذي يدوّن الكارثة بأدق التفاصيل، لا يقول اليابانيون أبدًا إننا كنا نزرع الحقول ونمارس الحصاد وزقزقة العصافير، حين قررت أميركا تجريب السلاح النووي، وقرر أعداء اليابان غزونا وتدميرنا، في مؤامرة كونية انعقدت في بوتسدام، وإن الكبار (تشرشل وترومان وستالين) قرروا فجأة تدمير اليابان، ما لم تستسلم دون قيد أو شرط، وبادرت أمريكا الى القصف بالنووي!

لقد تصالح اليابانيون مع أنفسهم، ويشير متحف هيروشيما بوضوح إلى أن ما جرى هو نتائج مغامرة الحرب، وهو لا ينكرون ذلك، إذ يقولون: كنا نحن -اليابانيين- نمارس هذه اللعبة العابثة، وكانت جيوشنا تحتل الصين ومنشوريا وكوريا، وكنا نأتي بالسجناء الكوريين نستعبدهم في السخرة والإذلال، لقد كانت التفاصيل مرعبة ورهيبة. ويشير المتحف بوضوح إلى السلوك الانتحاري الرهيب الذي مارسه الكاميكاز، وأسس للثقافة الانتحارية في العالم كله. ويقولون: تحالفنا مع هتلر، على الرغم من التوحش الذي مارسه النازيون، لقد كنا شركاء في صناعة هذه النهاية الدموية!

في الواقع، لا نستطيع -مهما فعلنا- أن نقلل من هول الجريمة النووية التي تواطأ عليها الكبار، ولكن المدهش أن اليابانيين لا ينظرون إلى الأمر هذه الرؤية المنحازة، ولم يتحدثوا عن مؤامرة كونية لتدمير بلادهم، وفي هيروشيما زرع اليابانيون حديقة خضراء، ونصبوا في وسطها منصة صغيرة على شكل البيت الياباني القديم، وكتبوا تحتها كلمتين: “يجب أن لا تتكرر المأساة”.

ولكي لا تتكرر الكارثة؛ نزع اليابانيون من ثقافاتهم مصطلح العدو، وتصالحوا مع العالم كله، وغدت أميركا نفسها، التي دمرت هيروشيما وناغازاكي ومارست عليهم احتلالًا مباشرًا مدة ست سنوات، أوثق حلفائهم، ونجحوا في بناء لعبة التكنولوجيا والأمن بطريقة جد فريدة، وأما الشركاء الذين كانوا في بوتسدام (الإنكليز والروس والأميركان) فقد صاروا أكبر شركائهم التجاريين!!

لا يوجد في المتحف الياباني شعارات “هيهات منا الذلة”، ولا هتافات “يا لثارات اليابان”، ولا مشاهد لطميات لجموع غاضبة تمزق العلم البريطاني والأميركي والروسي، وتصرخ: “أتعلمُ أن دماء الشهيد تظلّ عن الثأر تستفهمُ. تقحّم -لُعنتَ- أزيزَ الرصاص وجرّب من الموت ما يُقسمُ. فإمّا إلى حيث تبدو الحياة لعينيك مكرمة تغنمُ، وإما إلى جدث لم يكن ليفضله بيتكَ المظلمُ”!

لقد اختارت القيادة اليابانية لغة التصالح والغفران، ولا شك ان المشاهد الغاضبة الثائرة ظهرت في راهن المأساة، ومن المنطقي أن نتصور أن هذا هو الغضب الطبيعي لشعب شهد المأساة، فالناس ليسوا غاندي ولا المسيح بن مريم، ومن المؤكد ان حملات كبيرة كانت تطالب بعودة (الكاميكاز) الياباني والضرب في عمق أميركا ولندن وموسكو ومن يشد على أيديهم، و(الكاميكاز) أشهر مدرسة في التاريخ الحديث للانتحاريين، واشتهر منهم الطيارون الثلاثة والعشرون الذين اختارهم أسايكي كاماي، للهجوم الانتحاري بطائراتهم في وجه الاسطول الأميركي، أما قائد المجموعة يوكو سيكي، الذي كانت مهمته إرسال الانتحاريين، فقد انضم إليهم بحماس وقاد الطائرة الرابعة والعشرين، وقد أثار هذا الفداء لهيبًا عاصفًا في نفوس اليابانيين لقتال الحلفاء، ويقول الأميركيون إن اليابان سلطت 2400 انتحاري لضرب بيرل هاربر والمصالح الأميركية الأخرى، وكان العسكريون لا يزالون يعيشون مجد (الكاميكاز) وحماسه وهوله، ويربطونه دينيًا ولاهوتيًا بالنار المقدسة التي أحرقت جيش قوبلاي بن جنكيز خان المغولي عام 1281، ومنعتهم من احتلال اليابان.

كانت الدعوة للبعث الكاميكازي قوية ولاهبة، للرد على جرائم الحلفاء، ولو استمرت الحرب ألف عام آخر، ولكن من سَعد اليابانيين أن هذه التيارات لم تكن موقف الدولة ولا خيارها، ولو انتصرت هذه الخيارات الانفعالية؛ لكان اليابانيون إلى اليوم يخوضون أشرس عهود المقاومة والممانعة والتصدي والصمود.

لقد سمع اليابانيون صوت العقل، وكفروا بالحرب واختاروا السلام، وقطعوا مع ماضيهم وتصالحوا مع حاضرهم، وعملوا من أجل مستقبلهم، ولو استمع اليابانيون لنصائحنا في الشرق التعيس، وصدقوا تحليلنا البائس أنهم يعيشون تحت الإمبريالية والاستعمار الخفي؛ لكانوا في أحسن الأحوال كوريا شمالية ثانية، ينتجون القنابل النووية والهيدروجينية والجرثومية، ويعجزون عن إنتاج الرغيف.

Author

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق