على الرغم من رفضها المُتكرر لإطلاق سراح القس الأميركي أندريه برانسون، بعد مطالبة الرئيس دونالد ترامب بذلك وتهديده بفرض عقوبات قاسية في حال لم يتم الإفراج عنه؛ اتجهت السلطات التركية في نهاية المطاف إلى إطلاق سراحه، الجمعة الماضية 12 تشرين الأول/ أكتوبر، مشددةً على أن قرار الإفراج عنه جاء وفقًا لتقدير “السلطة القضائية المُستقلة”.
كان برانسون معتقلًا في تركيا، بتهمة التجسس ودعم منظمات إرهابية، وقد أمضى عامين في الاعتقال من دون محاكمة، ونتيجة لرفض السلطات التركية الإفراج عنه، بعد مطالبة الرئيس ترامب؛ واجهت الليرة التركية تدهورًا ملموسًا بلغت نسبته 40 بالمئة، بعد مهاجمة الرئيس ترامب لأنقرة، وفرض بعض العقوبات الاقتصادية عليها.
على إثر إتمام عملية الإفراج التي يبدو أن ألمانيا (التي استقبلت برانسون ليومين بعد الإفراج عنه) قد لعبت دورًا حيويًا في إتمامها؛ شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على عدم تقديم بلاده أي تنازل سياسي لواشنطن، مطالبًا إياها بإبداء التزام يليق بالحلفاء. ومن الجانب الآخر، توجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالشكر لشخص الرئيس أردوغان، موضحًا أن هذه الخطوة تؤسس لأرضية مناسبة لتعزيز العلاقات التركية – الأميركية.
بشيوع الأنباء حول إتمام الصفقة، بات التساؤل الذي يُطرح في ما يتعلق بالملف السوري هو: هل نشهد عملية في شرق الفرات؟
يبدو أن المقابل الذي حصلت عليه تركيا من هذه الصفقة، هو الحصول على ضمانات بالإفراج عن نائب المدير العام لبنك (خلق) السابق هاكان أتيلا، الذي يُحاكم بتهمة تقديم تسهيلات لإيران، بالرغم من فرض الولايات المتحدة عقوبات عليها، ويكاد التوقع أن يصل إلى احتمال حصول تركيا على وعود بتسريع عملية تنفيذ “اتفاق منبج”، المُبرم بينها وبين واشنطن في حزيران/ يونيو الماضي، والذي يقضي بتحقيق سيطرة تركية – أميركية على المدينة، مع تشكيل مجالس إدارية محلية بعيدة عن سيطرة (وحدات الحماية الكردية).
لكن في ضوء الاتفاق المذكور، بات عدد من الباحثين يُشيرون إلى أن الاتفاق يشمل إجراء تركيا عملية عسكرية شرق الفرات، مستندين في ذلك إلى تلويح الرئيس أردوغان بالعملية. وبهذا الخصوص، يبدو أن السيناريو الأكثر رجوحًا هو عدم وقوع ذلك، لعدة عوامل:
- تكاليف الخيار البديل: في حال لم تُجرِ الولايات المتحدة هذه الصفقة مع تركيا؛ فإن ذلك الأمر الذي يُعد الخيار البديل للصفقة، لن يكلفها الكثير. وبوضع التوجه التجاري لشخص الرئيس ترامب، لا يُتوقع أن تكون كلفة صفقة إطلاق سراح القسّ، مقابل تغييرات استراتيجية في الساحة السورية.
- الاختلاف في الأولويات والتوجه الاستراتيجي بين الطرفين، حيال الملف السوري: تركيا تُخطط منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية، لإحباط المخطط الكردي القائم على تأسيس منطقة حكم ذاتي، وفقًا للتوجه الديموغرافي “الكردي”، أما الولايات المتحدة فترمي إلى تأسيس حكم إداري لامركزي، يكفل استمرار مصالحها في سورية، ويتضمن تأسيس حزب الاتحاد الديمقراطي المنضوي ضمن “قوات سوريا الديمقراطية” لمجالس محلية، ويبدو أن التوجه الأميركي حيال المنطقة يُعيق تحرك تركيا نحو إجراء عملية عسكرية.
- الوضع الميداني لمدينة منبج ومحيطها؛ حيث تسيطر قوات أميركية وغربية وروسية وسورية (ممثلة بالنظام السوري) على منبج، وبالتالي فإن احتمال اختراق تركيا لهذه القوات صعب. وإن كان هناك توافق مُفترض مع الولايات المتحدة؛ فإن روسيا -كما يبدو- لا توافق.
- انعدام التوافق الروسي – التركي، في هذا الصدد: يبدو أن روسيا لا توافق على إجراء عملية عسكرية تركية، في المناطق التي تسيطر عليها وحدات الحماية الكردية، لعاملٍ أساس مرده رغبتها في عدم إطالة أمد الصراع، وإضفاء تعقيدات جديدة عليه. فهي ترنو إلى حل ملف الكردي مع الولايات المتحدة، لكسب توافق معها على ملفات أخرى، ولا ترغب في أن تُفسد تركيا تحركها في هذا الصدد.
في الختام، تركن تركيا إلى توظيف كل تحركٍ وتوافقٍ مع الولايات المتحدة، في إطار خطاباتٍ تؤكّد وتركّز على مصالحها وهدفها في مدينة منبج. واستراتيجيًا لا تعارض تركيا (أو بالأحرى لا تستطيع أن تعارض) قيامَ نظام حكم فدرالي في سورية، لذلك قد تتماشى تركيا مع المشروع الفدرالي، وفقًا لمعيار المناطقية وليس الديموغرافية المُعتمدة على القومية، لكن هذا لا ينفي احتمال ميل تركيا إلى اتخاذ تحركات استخباراتية، كحرب الوكالة، في حال لم يتم مراعاة حساسيتها في إقامة الحكم الذاتي للأكراد في سورية، والظاهر أن الولايات المتحدة تُراعي هذا التوجه، من خلال إقامتها مجالس إدارية، تضم العرب والأكراد والسريان في المنطقة الشمالية الشرقية.