لعل السؤال المهم هو: ما معيار الشرعية الذي يمكن إسناد تأسيس الدولة إليه؟ وهو السؤال الذي يتجاهله قراصنة الاستعمار، وهم يؤسسون “دولًا واقعية” تفتقر إلى معايير الشرعية.
نعم، لقد جسدّت “عصبة الأمم” تخلي بعض الأمم والشعوب غير الأوروبية عن سيادتها القومية، لكن ليس لصالح الحكومة العالمية التي تحدث عنها لاسكي، إنما كان تخلي أمم وشعوب الأرض عن سيادتها القومية لخدمة (المصالح الرأسمالية الأوروبية) التي سيطرت على (الدول القومية) في أوروبا، وعلى الدول غير القومية في أرجاء العالم، لا أكثر من ذلك، ولا أقل.
يقول د. عصمت سيف الدولة: “لما كان النظام القانوني في أي مجتمع نظامًا عامًا، بمعنى أنه للجميع، ويخضع له الجميع طبقًا للشروط التي يتضمنها؛ فإن مشروعيته قائمة على فرض أن المضامين، والعلاقات التي صاغها فحماها، تتفق مع ما تريده الجماهير التي تعيش في ظله، أو أغلبها. إلا أنه يحدث أن يكون هذا الفرض غير صحيح، إما لأنه نظام قانوني مفروض على إرادة الجماهير منذ مولده، كتلك النظم التي يفرضها الاستعمار على الشعوب التي يستعمرها، فيرسم لها حدودها، ويضع لها دساتيرها، ويعيّن لها سلطاتها، ويسّن لها قوانينها، ليوفر الحماية لمصالحه تحت ستار الشرعية، وإما لأن المضامين الاجتماعية قد تجاوزت عن طريق النمو والتطور إطارها القانوني الثابت نسبيًا، فتصبح مصالح الشعب، أو أغلبيته، مجردة من الحماية القانونية، وخارج إطار الصيغة التي يُمثلهّا النظام القانوني القائم”.
هكذا رسم الفقه القانوني العربي حدود المسألة، فبعد إسناد تأسيس الدولة إلى مستند شرعيتها الأكيد، يمكن الانتقال إلى الحلقة التالية في التراتبية للشرعية، وهي تأسيس النظام السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والنظم القانونية التي تنظمّ، وتحكم مؤسسات الدولة، كل واحدة على حدة، وعلاقاتها فيما بينها.
فبعد تأسيس الدولة (المشروعة)، استنادًا إلى هذا التأسيس المشروع، يبدأ تحديد المدلول الاجتماعي، والسياسي للشعب. يقول د. ثروت بدوي: “الشعب في مدلوله الاجتماعي يتكوّن من جميع الأفراد الذين يحملون جنسية الدولة، ومن ثم، فهو يضم إلى جانب البالغين، القُصّر، وناقصي الأهلية. بيد أن جميع الأنظمة السياسية تحرم القصّر وناقصي الأهلية من الحقوق السياسية، وبالتالي لا تدخلهم في مضمون الشعب السياسي”.
ثم تتمتّع الدولة بالشخصية المعنوية، حيث يكاد الفقه يجمع على “الاعتراف للدولة بالشخصية القانونية، ومن ثم فهي تلزم، وتلتزم كالأشخاص الطبيعية تمامًا. ويعرّف بعض رجال الفقه الدولة بأنها تشخيص قانوني للأمة”.
ثم يتقرر إذا كانت الدولة بسيطة (موحدة)، أو دولة مُركبّة، وتأخذ عدة أنواع: اتحاد شخصي (إنكلترا)، اتحاد حقيقي (سويد)، اتحاد تعاهدي (الولايات المتحدة الأميركية)، اتحاد مركزي (كندا)… وهكذا…
وتعاني (الدولة الفتية)، وفق (مصطلحات -سيدني فيريا) من وجود خمس أزمات نمو، هي:
1 – أزمة التغلغل: وتتعلق بحجم الرقابة الفعالة للحكومة المركزية.
2 – أزمة المشاركة: وتظهر بسبب تحديد من له نفوذ على الجهة المشاركة في اتخاذ القرارات الحكومية.
3 – أزمة الشرعية: وتتحدّد بأي قدر يتقبل المواطنون قرارات الحكومة.
4 – أزمة التوزيع: وتتعلق بأي قدر تستخدم إجراءات وتدابير الحكومة لتوزيع، وإعادة توزيع السلع المادية، وغيرها.
5 – أزمة الهوية (الوطنية والقومية)، وهي تنصب على تعريف ذلك الكم من البشر الذي يُفترض وقوعه في مجال القرارات المتخذة.
وتتحدد النزعة التداخلية للدولة، من خلال وظيفتين أساسيتين، ومتناقضتين غالبًا. وهما: “ضمان التراكم، وضمان الشرعية”.
هنا تبدأ حلقة جديدة، وهي تأسيس النظام السياسي، والقانوني لحل المشكلات التي تثيرها مرحلة تأسيس النظام بعد أن يستقر تأسيس الدولة، وهنا تتنوع الآراء.
فالنظام القانوني للدولة يتم اختياره لتلبية حاجات ومصالح القوى الفاعلة في المجتمع، أو القوى المسيطرة، وبالتالي فإن وضع هذا النظام القانوني، من أول الدستور إلى آخر نظام المرور، يتم بطرق مختلفة من دولة إلى أخرى، يقول لاسكي: “مواطنو أي دولة يختارون بعض الرجال ليصنعوا القوانين التي يعيش المواطنون في ظلها. ومن المُحّتم أن تربط هذه القوانين الجميع دون خوف أو تمييز”. ويُضيف: “إن الشعب الذي يريد أن يكون حرًا يجب أن يكون قادرًا على اختيار حكامه في فترات دورية محددة”.
فالقانون ليس مجرد أوامر تبرّرها الفضائل التي يُبنى عليها، وإنما هو “قواعد تهدف إلى إشباع الرغبات البشرية. وهذه القواعد يزداد التأكيد من قبولها، كلما زادت من سعيها لمعرفة ما هي الرغبات التي تحّتم الضرورة سرعة إشباعها. وأفضل وسيلة لهذه المعرفة هي اشتراك الناس في كل مرحلة من عملية صنع القانون، وذلك لأن الناس في الواقع سوف لا يطيعون القانون الذي يتجه عكس ما يعتقدون أنه جوهري لهم. فما يصنع القانون هو قبوله، وإن جوهر عملية صنع القانون هو إرضاء العقول التي تتأثر به”.
والدول ليست مجرد شخص يعيش على سطح مختلف عن أولئك الأفراد الذين تتألف منهم، “فلا يجب اتخاذ أي قرار بخصوصهم من دون أن يكون لهم نصيب وافر في صنعه. وكذلك التعقيدات التي تفرض على نشاطهم يجب أن تراعي الحقائق النفسية التي نشؤوا على أساسها مراعاة دقيقة”.
وهكذا، فإن مؤسسات الدولة التشريعية، وغير التشريعية (بحسب ظروف كل دولة) تسنّ القوانين، وعلى الدولة ذاتها بكل مؤسساتها أن تخضع لتلك القوانين أيضًا، وقد اختلفت الآراء، وتعددّت حول هذه المسألة، ومن أبرز النظريات الرئيسية في تفسير خضوع الدولة للقانون.
1) نظرية الحقوق الفردية: وتعتمد على أساس وجود حقوق فردية أصلية، وسابقة على الدولة، تسمو عليها، ولا تخضع لسلطانها، وأن الفرد ما انضوى تحت لواء الجماعة إلا لحماية هذه الحقوق، والتمتع بها في أمن وطمأنينة. فدخول الفرد في الجماعة لم يفقده هذه الحقوق، وما دامت هذه الحقوق سابقة على كل تنظيم سياسي. فهي تخرج عن سلطان الدولة بل تقيّد نشاطها، هذه النظرية قام عليها إعلان حقوق الإنسان، والمواطن في فرنسا سنة 1789.
2) نظرية التحديد الذاتي: قال فيها الفقهاء الألمان على أساس ضرورة خضوع الدولة للقانون، وفي ذلك يقول جلينك: “ما لم تخضع الدولة للقانون الذي صنعته، فإن ما يُعدّ قانونًا مُلزمًا بالنسبة إلى الأفراد، لن يكون قانونًا بالنسبة إلى الدولة، وهذا غير ممكن، لأن القاعدة لا تكون قانونية، وغير قانونية في نفس الوقت، وداخل نظام قانوني موحد”.
3) نظرية (دي.جي) في التضامن الاجتماعي: حيث أنكر “دي. جي” كلًا من فكرة السيادة، وفكرة الحق، وفكرة الشخصية المعنوية، وقد قامت نظرية (دي.جي) على أساس المصدر غير الإرادي للقانون، أي عدم تدخل إرادة الحاكم في عمل القانون، فالقاعدة تكتسب الصفة القانونية والإلزامية، لا بسبب إصدارها بواسطة سلطة عامة، ولكن بسبب اتفاقها مع مستلزمات التضامن الاجتماعي والعدالة، ومن ثم تكون لها الصفة القانونية لذاتها، وبذاتها.
4) نظرية ماركس، وتطبيقاتها: “الدولة، والقانون في الفقه الماركسي وجهان لشيء واحد؛ فمن حيث الأسس كلاهما ينتميان إلى البناء الفوقي في المجتمع، ويعكسان القاعدة المادية، ويتطوران معها، ومن حيث الوظيفة يؤديان معًا وظيفة واحدة. القانون يأمر، والدولة تنفّذ، ومن حيث الطبيعة كلاهما أداة الردع الاجتماعي، ومن حيث النشأة كانا وليدي مرحلة تاريخية معينة. ومن حيث المصير سينتهي وجودهما معًا. ومن هنا فإن كل تقييم ماركسي للدولة يصدق على القانون، والعكس صحيح أيضًا”.
5) النظرية الإنسانية: “إن الدولة غير قابلة للالتزام بالقانون من دون إرادتها، وخارج حدود تلك الإرادة، لأن الدولة، كل دولة، تملك ذلك المصنع الذي ينتج لها ما تحتاج إليه من قوانين، فالمسألة ليست خاصة بشرعية تصرفات الأفراد، أو الحكام بالقياس إلى النظام القانوني القائم في المجتمع. بل شرعية النظام القانوني هي التي تكون موضع بحث في مشكلة (مبدأ الشرعية)، أو ما نسميه مبدأ (سيادة القانون).