منذ بداية الثورة السورية، كان ثمة توجه سياسي واضح للمعارضة السورية، يركز على الموقف الغربي من سورية والمقتلة المستمرة فيها منذ عام 2011 حتى اليوم. وهو توجه مصيب ووجيه جدًا، تبعًا للطبيعة الجيوسياسية لسورية وأهميتها ضمن الحسابات الغربية في سورية، وأيضًا لأهمية الموقف الغربي أو وجود موقف غربي حاسم تجاه النظام السوري في موازين القوى السياسية والصراع في البلاد. (لن يفهم الممانعون ذلك في إطار اتهاماتهم المعارضة ككل بــ “العمالة للغرب والإمبريالية و….” إلى آخر المعزوفة، وتغييبهم طبيعة نظامهم الذي كان اللعب على التناقضات والمصالح الإقليمية في الدولية ركنًا أساسيًا من أركان استمراره حتى هذه اللحظة).
وإلى جانب مركزية الغرب سياسيًا وثقافيًا، في المنطقة العربية وسورية قبل الثورة وبعدها، صعد خطاب سوري معارض (في بعض أطياف وتيارات المعارضة السياسية غير الإسلامية تحديدًا) يستلهم فكرة مخاطبة “الرأي العام الغربي” و”ضرورة كسبه إلى صفنا”. وهي دعوة لا تخلو نظريًا من نبالة وحسن نية في طريقة التعاطي مع مسألة بالغة التعقيد كمسألة الرأي العام، إلا أن تعقيدها هذا هو ما قد يدفع المرء إلى التدبر والتمحيص فيها مليًا، بالمعنى الثقافي والسياسي. ذلك أن الدعوة ذاتها تحمل من الاستسهال الكارثي ما تحمله، إذ يبدو للوهلة الأولى وكأننا أمام جموع غربية مغيبة أو غائبة. وهي، تبعًا لذلك، بحاجة إلى “مرشد” أو “مُلهم” يشرح لها أبجديات القضية والثورة السورية و”ينير دربها”، بما يجعل الغربيين في موقع المتلقي، ويجعل معارضين سوريين فاعلين سياسيًا وثقافيًا في موقع الوسيط.
بالتأكيد، ثمة مجال واسع للعمل والنشاط في أوساط ثقافية وسياسية واجتماعية أوروبية، وخصوصًا من قبل السوريين المعارضين جذريًا للأسد، الذين قطعوا بشكل نهائي معه ومع نظامه، والمسيّسين أو المثقفين المقيمين في القارة العجوز كلاجئين أو كزائرين. لكن العمل والتحرك هذا الذي يرقى إلى مصاف الواجب، بالطبع من قبل الذين يتبنون قضية التغيير والديمقراطية، هو مما لا يجب أن يتحول إلى محاربة لطواحين الهواء. فالتمييز البديهي حاصل أساسًا بين صناع القرار والسياسات الغربية بكل انحطاطها وتنكرها لقيم الديمقراطية، وهي كانت ولا تزال مهد الديمقراطيات الحديثة في العالم، وبين الجمهور الغربي الذي يضم مهتمين بقضايا الشرق الأوسط، كما يضم أناسًا غير مكترثين بالسياسة الدولية وأناسًا وشرائح غير مهتمة حتى بالسياسات الداخلية لبلدانها الأم في أوروبا (إيطاليون كثر لا يعرفون اسم رئيس الحكومة الإيطالية السابق، بحسب استطلاعات رأي إيطالية نشرت مؤخرًا)، وفاعلين في الشأن العام من خارج المجال السياسي، أو من داخل المجال السياسي البعيد كل البعد عن الشرق الأوسط. ثم إن محاولة خلق فرص حقيقية لشرح القضية السورية والنقاش والسجال حولها لا يتم بالحديث عن “الرأي العام الغربي” كجماهير وكتل بشرية واحدة جاهزة للتنوير و”التجييش” وتلقي المعلومة “المقدسة”، تبعًا لثقافة عربية لا يزال لكارثتي “الجماهير والمقدّس” دور في رفدها وتعبئتها. وإنما، باستثمار الفرص أو خلق هذه الفرص التي تتيح لكل فاعل سوري، أو لمجموعة في الشأن العام، أن يطرح قضيته وقضية بلده وخلاص هذا البلد من دون تخيل أوهام كبيرة وخلاصية وسحرية، وأيضًا من دون توهم تحول قضية محقة وعادلة وإنسانية وسياسية مثل القضية السورية إلى قضية مركزية. هي قضيتنا المركزية، لكن من المحال ومن غير المعقول أن تتحول إلى قضية أساسية وشاغلة “لهم”.
قد يبدو هذا الكلام باعثًا على التشاؤم، أو استسلاميًا، وهو على العكس من ذلك. وربما يتعرض كاتبه لاتهامات أقسى من ذلك. إلا أن بعض السوريين المعارضين الذين يعيشون في أوروبا ربما يكونون أرحم بالكاتب من غيرهم، بحكم التجربة، وما ينطبق بالطبع على إيطاليا لا ينطبق على ألمانيا أو فرنسا أو غيرها.. ولكل منها تاريخه في العلاقة مع المشرق العربي وبلدانه منذ القرن الماضي وما قبله، وهذا قد يفسر لوحة تمايز الاهتمامات أو الاطلاع أو شغف المعرفة ومحاولة قراءة مختلفة بعيدة عن النظرات المسبقة تجاه الصراع السوري..
يبدو الفلسطينيون أوفر حظًا منا في هذا المجال. ففي مقابل كل عشرين سوري وأوروبي يتظاهرون أو يعتصمون من أجل سورية وضد النظام السوري، تجد أرقامًا مضاعفة في تجمعات فلسطينية أو أوروبية مناهضة لـ “إسرائيل”. وستجد حتمًا من بين الفلسطينيين والأوروبيين المعتصمين أو المتظاهرين.. مؤيدين وموالين عضويين للقضية الفلسطينية ولبشار الأسد في الوقت عينه. لقد عملت النخب الفلسطينية تاريخيًا على هذا الصعيد بشكل منظم أكثر من المعارضة السورية المفتتة والضعيفة والمنقسمة على ذاتها والمشغولة في صراعاتها الداخلية ومكاسبها الشخصية وتفاهة بعض قواها وشخصياتها. لكن هذا لا يشرح وحده ذلك الفارق بين المشهد الفلسطيني والمشهد السوري في أوروبا.
يبقى من المفيد القول إن موضوعًا كهذا يحتاج إلى مطولات في الكتابة عنه، ولا تفيه هذه العجالة حقه. مع ذلك، على سبيل الخاتمة، ثمة مسألة قد تكون مفيدة -وإن على نطاق وحيز ضيق في إطار الواقع المأسوي للمعارضين السوريين الجذريين والحقيقيين لنظام بشار الأسد في المرحلة الحالية، وما أكثرهم- وهي أن تبني القضية السورية واستمرار القبض على جمرتها، بذات الجذرية السابقة، ليس مجرد خيار بالنسبة إلينا. بل هو مسألة تمس وجودنا واحترامنا لذاتنا ولإنسانيتنا ولمعنى وجودنا على مسافة من كل هذا الركام المختلط برائحة البارود والجثث في سورية. وربما يكون طرح سؤال الاجتماع، وخلق حالة جديدة وبرنامج عمل سياسي وثقافي واضح، ملحًا اليوم أكثر من أي وقت مضى، كعامل مؤثر، وإن يكن محدودًا، في نظرة الآخرين إلينا وإلى بلدنا في بلدان اللجوء، كأفراد أو كجماعات تجمعنا ذات القضية، إلى أن يدور هذا الكوكب والعالم بشكل معاكس لدورانه اليوم. الحسم وقلب الموازين ليس بيد السوريين اليوم ومنذ سنوات. والاعتراف بهذا الواقع هو إنجاز بحد ذاته.