حكى لي معتقَل تدمريّ سابق كيف دفعت الكراهية مساعدًا في الأمن إلى حمل بلطةٍ معدنيةٍ تشبه الفأس، ليهوي بها على جسد معتقَل إخواني، وكأنه حطّاب يقطّع شجرة يابسة! حكاية تكررت أمام عيني، عندما ضرب جلادٌ في الأمن السياسي معتقلًا، من عائلة (الشيخ يوسف) في اللاذقية، بسيخ معدني مصمت على رأسه، فأرداه قتيلًا.
المبالغة في إنزال أقصى العقوبات بالناس، وبلوغ الإيذاء مبلغه، والرغبة في تحطيم الآخر في محاولة لمحوه وتغيير شكله الإنساني، سواء عبر الحرق، أو التجويع حتى الموت، أو التعذيب حتى يلفظ الروح، أو تقطيع الأوصال وتقطيع الرؤوس وحرق العيون وثملها، أو التذويب بالأسيد، والقتل بمئات الصور التي تمارسها النظم البربرية بحق مخالفيها في الرأي والمعتقد، هي إحدى قصص التاريخ القديم الجديد، تارة تمارَس باسم الحفاظ على الدين والعقيدة والأمة، وتارة باسم الحفاظ على حياة التقدم والاشتراكية، بحقّ من تسوّل له نفسه توهين نفسية الأمة.
كل كراهية تدفع إلى الإيذاء، ويبقى هذا الإيذاء موجودًا بالقوة لدى النفس الكارهة نحو المكروه، حتى يحين الوقت الذي تنتقل فيه الكراهية، من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، كانت كراهية الألمان لليهود كامنة في النفوس، حتى استطاعت هذه الكراهية أن تجد مخرجها، عبر النازية التي طبقت كراهيتها في أفران الغاز ومعسكرات الاعتقال النازي لليهود.
كل كراهية قد تكون شعلةً للحرب، في الوقت الذي تبلغ فيه الكراهية نضجها وقابليتها للانفجار، كما في الحرب الأهلية اللبنانية. وكل قتل طائفي أساسه الحقد الطائفي، ولا يمكن تفسير القتل تحت التعذيب لعشرات آلاف السوريين، أو تهجير الناس من مدنها وقراها، لولا الكراهية التي تمكنت في قلوب السلطة الطائفية في سورية على شعبها.
الكراهية كوجود أولي، والإيذاء كصورة ناتجة عن الكراهية، هي أهمّ صفات المجتمعات المنقسمة نفسيًا وشعوريًا، وعلى الرغم من أنّ الدولة -بالمفهوم السياسي- ضابط للمجتمع، فإنها تعجز عن التدخل بالقوى الكامنة في النفوس، لكون الكراهية هنا تمثل أمانًا عصبويًا للسلطة غير الشرعية، وحاجة تلجأ إليها السلطة عندما يُهدد كيان الدولة مهما كان شكلها.
عندما رفض عبد الله بن الزبير بَيعة يزيد، وأن يدخل بيت الطاعة الدمشقي متمسكًا بحكم مركزي منفصل عن عاصمة الدولة؛ كان مصيره الصلب والتعذيب، وهو المصير نفسه الذي جرى مع رفيق الحريري، عندما رفض الدخول في بيت الطاعة الدمشقي، إذ كان مصيره القتل بأبشع الطرق وأحقرها وأشدها لؤمًا. الكراهية إلى حد الفناء، الرغبة في الفناء السياسي تقود إلى الرغبة في الفناء الجسدي أيضًا، كانت تستطيع سلطة آل سعود قتل (خاشقجي) بأكثر من طريقة، ولكنها اختارت الطريقة التي تتناسب مع فلسفتها في الحكم، تلك الفلسفة التي تلتقي مع فلسفة الأسد: “نحن أو لا أحد”، و”لا أحد”، هنا، تعني الرغبة في إفناء أي أحد، هل بعد تقطيع الجسد وجود؟
استطاع النظام السوري زرع الكراهية في أوساط السوريين، وهي مخزونه الاستراتيجي من الكيمياء الاجتماعية السامة التي يجيد صنعها، كما أجاد استعمال أسلحته الكيميائية.
مع التلقين البعثي الأيديولوجي لأفراد شعبه، استطاع تلقين أهل الريف الحقد على أهل المدينة، بدلًا من أن يشتغل على تمدين الريف وترقيته، وتلقين الفقراء الحقد على الأغنياء، بدلًا من أن يهيئ للفقراء سبل العيش الكريم وصولًا للمستوى الذي يخلصهم من عقد الفقر والحاجة، حتى كاد الفقر في سورية أن يكون أيديولوجية!
ردف هذا التلقين البعثي الظاهر تلقين اجتماعي سرّي باطن في أوساط الطائفة العلوية، تلقين يتحدث عن مظلوميتها وفقرها وتعرضها للإذلال من قبل آغوات السنة وباشوات المدن، بل ربما يصل الأمر في التلقين إلى عليّ والإمامة ومشكلاتها، وعلى الرغم من واقعية هذه المظلومية على العلويين، فقد استطاع النظام تسخيرها لترسيخ بنيانه، مع أنّ هذه المظلومية المؤسطرة علويًا كانت واقعة على شرائح سورية كثيرة أيضًا، وكان يجب دراستها في سياق البنية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية المتخلفة في سورية، وليس بربطها بمذهب الأكثرية السورية.
نجح آل الأسد في زرع الكراهية في نفوس العلويين تجاه سنة سورية؛ فكانت معركته مع الإخوان المسلمين معركة كراهية متبادلة، قبل أن تكون معركة على السلطة. وما فعله الأسد في الثمانينيات لم تقرأه الغالبية السنية على أنه كراهية للسنة، بل محاربة لتنظيم ديني يريد السلطة، ولكن من الراجح اليوم أنّ غالبية الشعب السوري يقرأ ما حصل له بعد ثورة 2011 أنّ حجم الكراهية عند هذه السلطة لشعبها قد بلغ مبلغه، لدرجة يمكن تخيل أسوأ مما وقع حتى اليوم من إعدامات ميدانية هوياتية وقتل طائفي تحت التعذيب وتجنيس غير السوريين، واستقدام مقاتلين كارهين للسنة ومأجورين والترحيب بقوى احتلال، تشارك النظام عداءها لسنة المنطقة وثقافتها وتهريب آلاف الصور المسربة عن هول ما حدث في المعتقلات، في رسالة واضحة يريد النظام تكريسها في المخيلة الغربية، عن استحالة لمّ شمل السوريين أو نسيان جراحهم، وأن لا أمان لمجتمعات كهذي باتت الكراهية المرشد السياسي لها، إلا بالفصل والتقسيم!
تبدو الكراهية اليوم الفاعل الرئيس في ما ستكون عليه المنطقة لاحقًا، فمن اعتداءات تكفيرية على الكنائس القبطية، إلى وجود جيوب داعشية في سيناء، إلى التباين الاجتماعي والدولي الواضح حول اليمن، إلى طريقة اغتيال الصحفي العالمي جمال خاشقجي، إلى جعل المسألة الكردية في سورية مسألة خارج الثورة السورية، وهو ما تتحمله المعارضة السورية وجمهور الثورة وقوات (ب ي د) على الرغم من أنّ الحقوق الكردية، سياسيًا وشعبيًا وثقافيًا، كان يجب أن تكون من استراتيجيات المعارضة السورية، إلى تحريك جيوب (داعش) المشبوهة في جبل العرب، ومئات المناطق التي تعج بالكراهية وهي على صفيح ساخن. كل هذا يدفعنا إلى السؤال: هل ستصلح السياسة ما أفسدته الثقافة، أم أنّ الثقافة ستصلح ما أفسدته السياسة؟
يقول نيلسون مانديلا: لا يولد الإنسان كارهًا بالطبع، ولكن نحن من نعلمه الكراهية، وطالما استطعنا تعليمه الكراهية، فإننا نستطيع تعليمه الحب كذلك؟
هذا الواقع السيئ الذي يتجه نحو ما هو أسوأ منه، لا يمكن علاجه من دون مشروع ثقافي كبير، يتجاوز الديني والقومي والعشائري، فهذه الأنظمة التي تقطع أوصال مواطنيها هي حتمًا ستقطع أوصال أوطاننا، وهي غير مبالية بمصيرها، كونها لا تنتمي إلى هذه الشعوب ثقافيًا وسياسيًا، إنها أنظمة ماهرة في تقطيعنا وتمزيقنا، ويجب أن نكون ماهرين في تقطيعها وتمزيقها، إنّ مهمة المثقف المركزية اليوم هي البحث عن آليات تفكيك الاستبداد الشرقي، وهي ليست مهمة يسيرة، ولكنها الواجب الأقدس الذي سيقودنا نحو التحرر. إنّ تحررنا من هذه الأنظمة هو طريق حريتنا وديمقراطيتنا وخلاصنا من شوائب الكراهية وعقد السلطة والطبقة والطائفة والعشيرة والدين.
إنّ شعار “يلعن روحك يا حافظ” الذي يدلّ على وصول الكراهية إلى رمزٍ قد تفسّخ تحت التراب، وبقاء روحه السامة تجوب أرواح السوريين، لن يقودنا إلى حياة سوية، تلك الحياة التي لا تنال إلا بالحب والعمل والعدالة، والتسامح والعفو، إن تطلّب الأمر وتحقق الخلاص، لا لسنا محكومين بالأمل فحسب، نحن ملتزمون بالعمل، ومن دون عمل؛ قد يكون وراء آمالنا السراب والخراب.