كان هيثم حقي يقود على سطوح دارنا العربية فريقًا كثير العدد من الممثلين والفنيين، ليحقق مشاهد من فيلم (اللعبة) صيف عام 1979، وكنت وزوجتي نحتفي به كصديق عزيز، فوق كونه مخرجًا مبدعًا، وكان ذلك اللقاء واحدًا من لقاءات كثيرة جمعتني به مع ثلة من الشباب المخرجين والنقاد والإعلاميين، من أعمار متقاربة، يسعون في ذلك التاريخ وما قبله وما تلاه، لإنجاز دراما سينمائية وتلفزيونية وبرامج مختلفة عمّا كان سائدًا.
كان هيثم، على الرغم من هدوئه الظاهر، أشبه بنبع ماء غزير لا تتسع لتفجره واندفاعه تلك الفتحة الضيقة التي أتيحت له بين الصخور. كان المخرجون العائدون من الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية والغربية، ومن أميركا، محتاجين إلى أكثر من قناة تلفزيونية، وأكثر من مجرد جهة إنتاج سينمائية واحدة، تمثلت في المؤسسة العامة للسينما الحكومية. كما كانوا محتاجين إلى مساحة أكبر من حرية التعبير والتصوير، في بلد تهتم فيه السلطة بأمنها الخاص، وتنفق عليه جلَّ ميزانيتها، على حساب المرافق الأخرى، وكان الفن آخر مرفق يعنيها. قال هيثم حقي لتلفزيون (أورينت) في الشهر الأول من عام 2016: “كان عدد المخرجين السينمائيين العائدين من دراستهم الأكاديمية في الخارج، كبيرًا جدًا، بالنسبة إلى مجال العمل المحصور بين التلفزيون والمؤسسة. فقد كنا عشرة في التلفزيون، وعشرين في المؤسسة التي كانت تنتج فيلمًا واحدًا في السنة، ووجدت نفسي مضطرًا إلى التراجع خطوة في السينما، مقابل التقدم خطوتين في التلفزيون”. كان معظم أولئك المخرجين على اختلاف مرجعياتهم الأيديولوجية والبيئية، منحازون إلى قضايا المجتمع الأساسية، وخصوصًا مسألة تهميش دوره في الحياة السياسية والاقتصادية، وكل ما يتعلق بمستقبله. لذلك سعوا في إنتاجهم الدرامي السينمائي والتلفزيوني لرصد معاناة الناس وتجسيدها على الشاشة، عن طريق الفن بدلًا من الخطاب المباشر، كما قال هيثم غير مرة.
كان هيثم حقي المخرج الأكثر إنتاجًا للمسلسلات والأفلام، سواء أخرجها وكتبها وأنتجها بنفسه، أو أفسح في المجال لرفاقه من المخرجين والكتاب لتنفيذها. عدد الأعمال التي أخرجها أو كتبها أو أنتجها فاق المئة، ويصعب أن نجد بينها عملًا واحدًا لم يتحدث، بلغة درامية احترافية أخاذة، عن هموم الناس وتطلعاتهم للحرية، سواء تصدت تلك الأفلام والمسلسلات للقضايا المعاصرة، أو استحضرت أحداث التاريخ البعيد أو القريب لتعكس من خلالها طموح الشعوب العربية لدولة العدل والديمقراطية والمساواة. كان ذلك الإنتاج يشي بكثير من الشفافية عن أفكار وضمير هيثم، ولذلك واجه مع رفاق دربه من المخرجين أمثال محمد ملص، ومأمون البني، وعمر أميرلاي، ونبيل المالح، وسواهم، تضييقًا رقابيًا صارمًا، وكانت بعض تلك الأعمال تنتظر عامين بين أخذ ورد وحذف وتعديل، قبل أن يوافق الرقيب على عرضها.
في سيرة هيثم حقي، محطات استقل من خلالها عن هيمنة التلفزيون والمؤسسة العامة للسينما، منها مثلًا تأسيس شركة الرحبة للإنتاج السينمائي والتلفزيوني عام 1987، كما أنشأ شركة حلب الدولية للإنتاج الفني عام 1994 التي أنتجت مسلسل (ليل الخائفين) من إخراجه وإشرافه. كما تولى إدارة الإنتاج السينمائي والتلفزيوني لشركة أوربت الفضائية، اعتبارًا من عام 2007، وهو من موقعه ذاك، أفسح في المجال لمعظم المخرجين وكتاب السيناريو والممثلين والفنيين السوريين، لإنتاج العديد من الأفلام والمسلسلات الناجحة التي عرضت على قنوات أوربت، ومن ثمّ على الشاشات العربية، ومن تلك الأفلام: (التخلي الأخير لغيلان الدمشقي) الذي كتب له السيناريو وأخرجه. وكتب كذلك سيناريو فيلم (الليل الطويل) الذي أخرجه حاتم علي.
هيثم حقي، خريج معهد السينما في موسكو (فغيك) عام 1973. من أعماله التلفزيونية: أحلام في البوابة 2005 – الشمس تشرق من جديد 2005 – الخيط الأبيض 2004 – ذكريات الزمن القادم 2003 – ردم الأساطير 2002 – قوس قزح – 2001- الأيام المتمردة 2000 – سيرة آل الجلالي 1999 – رماد وملح 1999- خان الحرير الجزء الثاني 1997- الثريّا 1997- خان الحرير الجزء الأول 1996، وآخر أعماله إخراج مسلسل (وجوه وأماكن) تأليف خالد خليفة وغسان زكريا. كتب وأخرج وأنتج العديد من الأفلام السينمائية منها: اللعبة، ملابسات حادثة عادية، التخلي الأخير لغيلان الدمشقي، وأنتج العديد من الأفلام منها: الليل الطويل، بصره، روداج، مطر أيلول.
وأخيرًا، فإن سيرة هيثم حقي تستحق كتابًا من الحجم الكبير، وما أتيت على ذكره في هذا المقال مجرد إضاءة سريعة عليها. وقد قال لي قبل أن أكتب هذا النص: إن نهضة هذه الفنون من جديد مرهونة بمآلات الثورة… وبوجود تمويل… وهذا لن يحصل على المدى المنظور، حتى لو تمّ الحل السياسي المنشود، بتحول سورية إلى دولة ديمقراطية تعددية بتداول للسلطة وبمواطنة متساوية… فسيقولون لك ما الأهم الآن: الخبز وإسكان الناس أم ترف الانتاج الثقافي؟! ولعلَّ سلوك مؤسسات المعارضة في هذا المجال خير دليل، تبقى تجليات فردية لا تقيم صناعة، لكنها تسعدنا من وقت لآخر باختراق للجدار الأصم، وسيتم الاعتماد -مثل وضعنا الآن- على الإنتاج قليل التكلفة أو على التمويل الخارجي الذي لا يضمن أحد استمراره في ظل التغيير الديمقراطي المنشود. وأخيرًا قد يجد الإنتاج الدرامي التلفزيوني تمويلًا، بتخفيف اللهجة واللجوء إلى العمل التجاري، لكن السينما والمسرح وضعهما أصعب، فما يريده أصحاب السلطة والمال هو أعمال تطبّل لهم ولسياساتهم، لا الأعمال التي تعارضهم إذا احتاجت حرية التعبير إلى ذلك. سنعيش مدة انتصار العمل التجاري الدعائي، قبل الانتصار الحقيقي لثورة الحرية التامة للتعبير. هذا فضلًا عن إمكانية تسلط المتأسلمين الجدد على الثقافة، واستخدام المنع المقدّس لكل من لا يوافقهم الرأي. قد أبدو متشائمًا، لكن الواقع يفرض هذا التحليل، وأتمنى أن أكون مخطئًا. وعلى كل، الخطوة الأولى هي تحوّل سورية إلى دولة ديمقراطية، وعندئذ سيجد الجيل القادم الحلّ.