أطلقَت محكمة تركية سراح القس الأميركي أندور برانسون، المُتهم بالتجسس ودعم المنظمات الإرهابية، الجمعة الماضية 12 تشرين الأول/ أكتوبر. وهو الأمر الذي دفع المراقبين إلى توقع فتح صفحة جديدة في العلاقات الأميركية – التركية، لا سيما في ما يتعلق بمسار تعاون الطرفين في المسألة السورية.
منذ اندلاع الثورة السورية، العلاقات التركية – الأميركية تمرّ بتقلبات موجية، مردها الاختلاف الجوهري في توجهات الطرفين حيالها. وعلى الرغم من بروز ملامح اختلاف الطرفين إلى السطح، في أكثر من واقعة، فإن الطرفين لا يُظهران عزوفًا كاملًا عن الخوض في مسارات تسعى للتوصل إلى تنسيق بعض المصالح المشتركة، أو بعض الملفات، رغبةً في الاستفادة من مواقعها السياسية في القضية السورية. فأنقرة، بانتمائها “الناتوي”، ما زالت تُراهن على الدعم الغربي بزعامة الولايات المتحدة لدورها الفاعل “كدولة ضامنة” في الأزمة السورية، أمام روسيا وإيران، والولايات المتحدة ما زالت تُراهن على الموقع الجيواستراتيجي المميز لتركيا المحاذية للحدود السورية، الذي يُمكن أن تستفيد منه، إذا احتاجت إلى تحقيق انسحاب مباشر من الأراضي السورية إلى الدول القريبة منها، بهدف الإبقاء على نفوذها الأمني في سورية، باتباع استراتيجية الاحتواء والتطويق القائمة على محاصرة الدول المنافسة، من خلال الاستيطان العسكري التكاملي مع الدول المجاورة لنطاق نفوذ الدول المنافسة.
وفي إطار ما يُظهر ملامح ميلاد توافق أميركي ـ تركي، يمكن الإشارة إلى أن الاتفاق بين واشنطن وأنقرة قد ينعكس بالإيجاب الواسع على الاتفاق المُبرم بين الطرفين، في ما يتعلق بمنطقة منبج. وقد أصبح ذلك واقعًا، من خلال تحريك الجيش التركي، الخميس المنصرم 18 تشرين الأول/ أكتوبر، دورية جديدة له في منبج، مع تأكيد رئيس هيئة الأركان الأميركي جوزيف دانفورد أن قواته ستُظهر تفاعلًا أكبر حيال الاتفاق المبرم مع تركيا، مبينًا أن عملية المسح الديموغرافي السياسي لسكان المدينة ستبدأ قريبًا. وعلى الأرجح، تأتي عملية المسح في إطار تمهيد الأرضية، لتأسيس مجالس الحكم المحلي، في المدينة، التي نصّ عليها اتفاق خارطة الطريق المُبرم بين واشنطن وأنقرة، في حزيران/ يونيو المنصرم.
وفي ضوء ذلك، وعلى هامش وفاة الصحافي والكاتب السعودي جمال خاشقجي، في أثناء وجوده داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، قد يظهر تعاون أكثر انسجامًا بين الطرفين: تركيا والولايات المتحدة، في قابل الأيام، مقابل ميل تركيا إلى سيناريو التسوية مع المملكة العربية السعودية، حيث يُتوقع أن تدفع الروابط الاقتصادية والسياسية التي تربط بصورةٍ وثيقة أنقرة بالرياض، وعرض الولايات المتحدة على أنقرة التسوية مع المملكة العربية، مقابل البدء بتحرك أكثر تناسقًا في المنطقة الشمالية الشرقية لسورية، والمناطق الجغرافية الأخرى ومنها منطقة الخليج العربي، أنقرة، إلى الجنوح لتسوية.
وفي سياق ذلك، تجدر الإشارة إلى أن من مصلحة تركيا عدم التصعيد وتعريض مركزية المملكة العربية السعودية التي تواجه، بالتعاون مع أنقرة، النفوذ الإيراني، والتي تُشكّل ثقلًا دبلوماسيًا واقتصاديًا قويًا، يُحقق لأنقرة التفاعل التكاملي معها في بعض المجالات.
وبمعزلٍ عن التغيّرات الظرفية التي يسفر عنها تنسيق تركي ـ أميركي أكثر فاعليةً، تجدر الإشارة إلى أن التوجه الاستراتيجي الأميركي، حيال تأسيس مجالس حكم محلي إداري ذاتي “نسبيًا”، يخدم، في الحقيقة، ما آل إليه التوجه الاستراتيجي التركي، حيال القضية السورية، الذي بات يقوم على تحقيق نفوذ مباشر أو غير مباشر، على طول حدودها مع الأراضي السورية، رغبةً في حماية أمنها القومي من أي خطر، قد تشكّله وحدات الحماية الكردية الساعية لربط المناطق الخاضعة لسيطرتها بجغرافيا تطل على المتوسط.
إن مسعى الولايات المتحدة لترسيخ نظام الحكم الإداري يأتي في إطار طموحها للإبقاء على نفوذها على نحوٍ استراتيجي في سورية. وهو ما يحقق لتركيا قوة داعمة تتشارك معها بعض القواسم، وتوفر لها ورقة ضغط على الجانبين الروسي والإيراني، لإحراز مصالحها في الشمال السوري.
وكما ذُكر أعلاه، قد تضطر الولايات المتحدة في قابل الأيام إلى تخفيف حجم وجودها المباشر في سورية، ونشر قواتها في بعض النقاط الواقعة الحدود السورية – العراقية، والحدود السورية – التركية، بصيغة القوة الدولية الراعية لعملية التسوية في سورية، والمراقبة لتحركات المنظمات الإرهابية، وإيران التي تضر بحالة الاستقرار في سورية.
ولتطبيق هذه الاستراتيجية التي تشير إليها مؤسسة (راند)، في دراستها (خطة سلام من أجل سورية – 4)، تصبح الولايات المتحدة بحاجة إلى التنسيق مع أنقرة التي تُعدّ حليفتها ذات الموقع الاستراتيجي الأكثر أهمية، مقارنة بالعراق. وتنبع أهمية تركيا من مركزيتها وعدم تبعيتها لأطرافٍ أخرى، مقارنة بالعراق، إضافة إلى نفوذها على فصائل المعارضة، مما يُتيح للولايات المتحدة الركون إليها، في تعميم سيناريو الإدارات المحلية في عموم الشمال السوري، بما يشمل محافظة الرقة ذات الصبغة العربية، التي تحتضن تركيا على أراضيها مجلسها المحلي. كما أن أنقرة تحظى بذريعة قانونية شرعية في انتشارها داخل الأراضي السورية، كقوة ضامنة، مما يوفر للولايات المتحدة جسرًا تستند إليه في تعميم ما ترنو إليه من سيناريو، بصبغة شرعية.
هل تحتاج الولايات المتحدة إلى ذريعة شرعية في تحقيق ما ترنو إليه؟
تحرص جميع الدول حول العالم، ومن بينها الولايات المتحدة، على الركون إلى القانون الدولي، كأداة لتحقيق ما ترنو إليه، حتى تُكسب تحركَها حالة استقرار استراتيجي، يصعب على الأطراف المنافسة الأخرى تغييره إلا بالركون إلى توافق أو تفاوض دولي. كما أن استخدام القانون الدولي في تحقيق النفوذ يُبقي هوية الدولة المستندة إليه لامعةً، أمام الدول الأخرى والجمهور الموجود في إطار نفوذ تحركها.
في الختام، إن الظواهر السياسية كالنهر المتدفق الذي ينتج عنه تدافع مستمر في الأحداث والتطورات. ويخلق هذا التدافع تشابكًا وتداخلًا في روابط العلاقات الدولية، على نحوٍ يدفع الأطراف الواقعة في الخلاف إلى التنسيق، بعيدًا عن القطيعة التي تضر بمصالحهما المشتركة.
تعليق واحد