“قادمًا لتقديم التبريكات والتهنئة بانتصارات قوات الأسد في محافظة درعا وعودة الأمن والأمان بها”، بذلك التوضيح نشرت صفحة (حزب البعث ـ فرع درعا)، عبر صفحتها على (فيسبوك) الأربعاء 24 تشرين الأول/ أكتوبر، صورًا تُظهر لقاء ممثل المرشد الأعلى للثورة الإيرانية في سورية علي خامنئي، أبو الفضل الطباطبائي، مع أعضاء حزب البعث في درعا.
تقع مدينة درعا جنوب سورية، ويُشار إليها على أنها يجب أن تقع خارج نفوذ إيران، بحسب الاتفاق القائم بين الطرفين الروسي والإسرائيلي، حول جنوب سورية. ما دفع عددًا من المتابعين إلى التساؤل عن حيثيات الزيارة ومعانيها.
ضرب من أسفل الجدران
على الأرجح، تحاول إيران التي ترى في الجنوب السوري المحاذي لـ “إسرائيل” والأردن الذي يُعدّ الدرع الخليجي أمام التمدد الشيعي في سورية، الإبقاء على نفوذها غير المباشر في هذه المنطقة. وبحسبان توقيت الزيارة ومستوى الشخصية التي قامت بها، يبدو أن إيران ترسل رسالةً لـ “إسرائيل” والدول الخليجية، مفادها: “لم ينتهِ دوري في الجنوب بالكامل، وإن استراتيجيّتي القادمة في الجنوب تقوم على الضرب من أسفل الجدران”.
وتقوم هذه الاستراتيجية المذكورة استراتيجية استخباراتية، على اتباع أسلوب (استوكال) لقوات شرعية تكون بديلًا لقواتٍ تمّ حظر تواجدها في بقعة جغرافية مُعيّنة، بفعل جدار قانوني أو سياسي كان أقوى من قدرات الدولة التي ترمي إلى الانتشار في هذه البقعة، لكنها عجزت عن ذلك، فتميل إلى استراتيجية الضرب من أسفل الجدران.
في هذه الاستراتيجية، يظهر أسلوب التحايل على الاتفاقات والموانع المُشار لها في ما يتعلق بمنطقة نفوذ ما. وبحسب تقرير صحيفة (عنب بلدي): “ممثل خامنئي في سورية يزور درعا”، فإن النفوذ الإيراني برز في درعا مؤخرًا، من خلال تغلغلٍ عسكري ومدني يُقدم رواتب مالية ومادية مُغرية لشباب التسويات السياسية، لإقناعهم بالانضمام إلى خلاياها التي ما زالت غامضة الاسم والهيكلية، لكنها واضحة قومية العناصر؛ أي أنها خلايا يُرمى لتكون من عناصر سورية لم يتم حظرها في الاتفاق الروسي ـ الإسرائيلي.
الإبقاء على الهوية المقاومتية
لقد ساهمت شعارات المقاومة “النظرية” التي أطلقتها إيران، خلال تحركها في الأراضي السورية، وكان أبرزها “تحرير القدس يمرّ من سورية”؛ ذلك الشعار المُقتبس من شعارها المُستخدم خلال حربها مع العراق “تحرير القدس يمرّ من كربلاء”، في تأسيس هياكل هوياتية تُرجمت من خلال مساندة عدة فصائل يسارية وأخرى فلسطينية؛ كفتح الانتفاضة وقوات الصاعقة وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، لتحركاتها في سورية.
ويكاد اتفاق الجنوب المُبرم بين روسيا و”إسرائيل” يُفسد على إيران الإبقاء على هويتها المبنية على “المقاومتية” التي عملت، وما زالت، من خلالها، على جذب أكبر عدد ممكن من العناصر المُقاتلة المُجيشة بشعاراتها النارية التي تُشير إلى أنها ترمي إلى حماية محور “المقاومة والممانعة”. إذ يؤدي الاتفاق المذكور إلى إظهار إيران في عيون مؤيديها، كدولة ضعيفة نكصت على عقبيها، بعد الضغوط الدولية التي تعرضت لها، وبالتالي لم تحقق ردعًا أو تهديدًا حقيقيًا لـ “إسرائيل”. وهذا ما يُفسر، على الأرجح، توجهها لحملة تُجند عددًا من الشباب السوري الجنوبي القريب من الأراضي “الإسرائيلي” في قوالب عسكرية ومدنية جديدة تُبقي على دعايتها كقوة تُهدد أمن “إسرائيل، ولو كان ذلك نظريًا أو شعاراتيًا.
تنافس إيراني – روسي عسكري وجيوسياسي
بدأ التحالف الروسي الإيراني في سورية، وفقًا لسياسة “ترتيب الأولويات” القائمة على تأجيل الخلافات البينية أو احتوائها، مقابل تحقيق المصلحة المشتركة التي قامت على إبقاء النظام السوري المحارب من قبل القطب الغربي.
لكن الآن، بالاتجاه صوب تقاسم النفوذ، طفى على السطح عدة مؤشرات للتنافس بين الطرفين، ربما كان أبرزها حتى الآن:
– الخلاف حول اتفاق حلب المُبرم مع تركيا نهاية عام 2016، ومن ثم محاولتها للحيلولة دون تُقدم تركيا نحو عفرين، من خلال تحريك ميليشياتها التابعة لها.
– محاولة روسيا تخفيف حدة اصطدامها مع الشعب، عبر تسهيل عمليات إخلاء حلب، على حساب الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، التي ظهرت بمظهر المتغطرس والمعادي.
– جنوح روسيا للقبول بالمعارضة السياسية والعسكرية في عملية المفاوضات، بخلاف إيران التي أعلنتها “جماعات إرهابية”، وطالبت بحسم كامل.
– تأسيس إيران “قوات الدفاع الوطني” برواتب وامتيازات أكبر، مقارنة بتلك الممنوحة لعناصر “الفيلق الخامس”، لترسيخ نفوذها الأمني والسياسي المؤسسي في سورية. ولعل تقديم إيران لإغراءات مالية ورواتب أعلى من تلك التي يتقاضاها عناصر “الفيلق الخامس” الذي احتوى عناصر المعارضة القابلة بالتسوية، يؤكد هذا المؤشر.
– ضغط روسيا على النظام لإلغاء اتفاقية استخراج الفوسفات المُبرمة مع إيران، ورفض روسيا إنشاء إيران قاعدة عسكرية في بانياس والقلمون الغربي.
وعن دوافع التنافس الأمني والجيوسياسي بين الطرفين، يُذكر التالي:
– الرغبة الروسية في الظهور بثوب “الحاكم السياسي الأكبر” للمسألة السورية، ورغبتها في التحكم بتوريدات الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي، حيث ترمي إلى حصر النفوذ الإيراني في سورية، في سبيل عدم السماح لأيّ مشروع في احتكارها لتوريد الغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي، حيث تحتل إيران المرتبة الثانية عالميًا، بعد روسيا، من حيث حجم احتياطي الغاز الطبيعي.
– الحلم الروسي في تحقيق سيطرة جيوسياسية تتجلى في السيطرة على الموانئ ومصادر الطاقة الطبيعية والقواعد العسكرية، تمكّنها من تحقيق نفوذ واسع في المنطقة. فروسيا تحاول وقاية نفسها من سيطرة إيرانية قد تعيق عملية تنفيذ قراراتها في سورية، وتحول دون إحرازها ما ترنو إليه من نفوذ في سورية، لا سيما أن روسيا ترى في إيران “وكيلًا ميدانيًا” ليس إلا، لذا تُظهر بعض الصلابة في التعاطي مع ملف النفوذ الإيراني، وتتعاون مع أطرافٍ دولية في سبيل تحجيمه.
– الرغبة الروسية في الاستفادة من المعادلة الدولية الضاغطة على إيران، من خلال تقديم ذاتها للغرب على أنها “شرطي جيد” قادر على كبح جماح القوة التهديدية لإيران. فروسيا ترمي لخدمة الأمن القومي “الإسرائيلي”، في سبيل جلب دعم “إسرائيلي” لها في أروقة المؤسسات الأميركية. دعم يشمل رفع العقوبات الأميركية المفروضة عليها. وفي ذات السياق، لا يمكن إغفال الرغبة الروسية في اقتطاع أكبر قدر ممكن من استثمارات إعادة الإعمار التي يبدو أنها ستمول بأموالٍ خليجيةٍ، وربما أوروبية أو دولية “عبر البنك الدولي أو صندوق النقد”، لكن بتوجيهٍ أميركيٍ رافضٍ للنفوذ الإيراني، مما يدفع روسيا إلى التنسيق مع الدول الأخرى على حساب النفوذ الإيراني.
– جنوح روسيا لتسوية ملف الأزمة السورية، بالتوافق والتفاوض مع الدول ذات العلاقة، مقابل ميل إيران لمعادلة الحل الصفري الذي يعني نفي الآخر ومصالحه. ولأن هذه المعادلة تُطيل عمر النزاع، مالت روسيا لتقليم نفوذ إيران وطموحها في سورية.
في الختام، أضحى هناك كثير من الأساليب التي يُمكن لدولة ما، من خلال الركون إليها، إنجاز نفوذ سياسي وأمني في منطقةٍ تُمثل أهميةً جيوسياسةً بالنسبة إليها. ولعل ميل إيران للحفاظ على نفوذها في الجنوب السوري، من خلال استقطاب عناصر الفصائل “المتصالحة” مع النظام، يعكس مثالًا واضحًا على أحد هذه الأساليب.