معظم الدول التي حدثت فيها كوارث وحروب أهلية مدمرة، لجأت بهذا الشكل أو ذاك إلى تطبيق آليات العدالة الانتقالية، للخروج من مرحلة الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، ومعالجة الآثار الكارثية للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وفي سبيل تحقيق ذلك، طبقت تلك الدول مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية، تضمنت بصفة أساسية الملاحقة القضائية لمرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومحاسبتهم، وتشكيل لجان لكشف حقيقة كل ما جرى، وجبر الضرر وتعويض الضحايا والاعتراف بحقوقهم، وإجراء مصالحات محلية ووطنية، وإصلاح مؤسسات الدولة، وفي مقدمها المؤسسات المتورطة في ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان أو التي لم تمنع ارتكابها، وتخليد ذكرى الضحايا الذين سقطوا فيها وتكريمهم بطرق مختلفة، سواء من خلال إقامة النصب التذكارية للضحايا، وإطلاق أسمائهم على المدارس والأماكن والساحات والشوارع، في الأماكن التي شهدت نزاعًا عنيفًا، وإدراج كل ذلك في المناهج المدرسية حتى تكون مثالًا يحتذى ومنارة وذكرى دائمة للأجيال القادمة، لمنع تكرار ما حصل من مآسي.
في سورية، التي تعيش مأساة لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلًا لها، وهي بأمس الحاجة اليوم إلى تطبيق آليات العدالة الانتقالية، حتى تتعافى من مأساتها ولو بالحد الأدنى، يصرُّ نظام الأسد، بدعم روسي، على رفض أي حديث عن العدالة الانتقالية، على الرغم من مئات الآلاف من القتلى وملايين اللاجئين والدمار الهائل في الممتلكات والأرواح، ومئات الآلاف من المفقودين والمختفين قسريًا، وتزايد أصوات السوريين المطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم المفقودين، وبالتعويض عمّا لحقهم من أضرار مادية ومعنوية جسيمة دون جدوى، وعلى الرغم من ارتفاع أصوات تطالب بالانتقام والاقتصاص من الذين تسببوا بمعاناتهم؛ فإن نظام الأسد يتجاهل كل ذلك، ولا يرى ما يحدث خارج قصره، ويصرُّ على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لقتل رغبة السوريين في التغيير، من خلال إعادة نصب تماثيل والده الطاغية حافظ الأسد التي سبق أن حطم السوريون بعضًا منها، باعتبارها رمز السلطة الاستبدادية التي ثاروا عليها، وهو لا يرى في إعادة الإعمار إلا وسيلة لإعادة هيمنته وتكريس سطوته من جديد على سورية والسوريين.
وهكذا، لم يجد نظام الأسد حرجًا في إعادة تمثال أبيه إلى قلب مدينة حماة، بتاريخ 9/ 2/ 2017 المصادف لذكرى مجزرة حماة، كرسالة استفزاز وإذلال لأهل مدينة حماة وغيرها من المدن السورية، وكأني بالأسد يقول للسوريين: “انسوا أحلامكم بفتح صفحة جديدة، سأبقى جاثمًا على صدوركم”، وأعاد أيضًا تأهيل تمثال أبيه في مدخل مدينة حمص، بعد أن تعرض للتخريب خلال الأحداث التي شهدتها حمص، وقد كلفت إعادة ترميمه 50 مليون ليرة سورية.
وفي تحدٍ سافر لمشاعر أهالي مدينة دير الزور، أعاد نظام الأسد مؤخرًا نصب تمثال جديد لأبيه، في دوار (السبع بحرات) في داخل مدينة دير الزور، وسط الدمار الهائل الذي تعرضت له المدينة بفعل الطيران السوري والروسي، ليس مهمًا أن يرتفع التمثال وسط الخراب والدمار، فالمهم -لدى النظام- أن رفعه بحد ذاته يشكل تحديًا لرغبة السوريين في التغيير، وقد علّق على ذلك أحدُ سكان المدنية بالقول: “لقد نصبوا التمثال فوق أشلاء أبنائنا وأهالينا الذين قتلهم طيران الأسد”.
إن إعادة نصب تماثيل الأسد لهي تأكيد واضح من نظام الأسد نفسه أنه لن يتزحزح عن موقفه وسياساته القمعية تجاه السوريين، وأنه لن يتغير إلا للأسوأ، في حال فرض سيطرته من جديد على كامل سورية. فما هو رأي السوريين الذين صدعوا رؤوسنا برواية أن النظام لن يستطيع أن يحكم بنفس العقلية التي حكم بها سورية قبل 2011، وبأن ما جرى في سورية قد فرض عليه التغير في طريقة التعامل مع السوريين؟ وبهذه الرواية ما زالت جهات محلية وإقليمية ودولية تعمل على إقناع السوريين بمصالحة الأسد، على الرغم من معرفتهم أن ما فعله الأسد، وما يفعله الآن، في المناطق التي استعاد السيطرة عليها بمساعدة الروس والإيرانيين، وكذلك في المناطق التي كانت تحت سيطرته منذ البداية، يؤكد بشكل واضح أن نظام الأسد لا ينوي أبدًا تغيير طريقة تعامله، وما نسمعه من المؤيدين له في مدينتي طرطوس واللاذقية يؤكد ذلك، حتى إنهم أصبحوا يترحمون على ممارسات نظام الأسد قبل آذار/ مارس 2011. حيث تضاعف الخوف والرعب في نفوس الموالين، لا سيما في ظل انفلات انتشار السلاح والميليشيات المسلحة التي أنشأها الأسد خلال السنوات السابقة، وسلطها على الناس حتى في المناطق التي تدين بالولاء له، وتصاعد هذا الخوف مؤخرًا، بعد أن استعاد النظام جزءًا من هيبته المفقودة.
أخبرتني صديقة تعيش في وسط اللاذقية أن النظام بات يتعامل مع الناس على نحو أشرس مما كان عليه قبل 2011، يتنمر ويستأسد على الناس، وينكل بهم من خلال أجهزته الأمنية وميليشياته المنفلتة، هذا يحصل في اللاذقية، فكيف الحال في المناطق التي ثارت عليه، فالأخبار القادمة من درعا تشير إلى ارتفاع منسوب الاعتقالات التي تستهدف الشباب، في المناطق التي تصالحت مع قوات الأسد بضمانة روسية.
هكذا يتصرف نظام الأسد، بعد أن استعاد جزءًا من هيبته المفقودة، فكيف سيتصرف إذن؛ إذا تمكّن من أن يستعيد سيطرته الأمنية والعسكرية على كامل الأراضي السورية؟ لا شك أنه سيجعل كل السوريين يندمون على ثورتهم عليه.
إن إعادة نصب تماثيل الأسد، بما يرمز إليه من استبداد وقهر وإذلال وعبودية، وسط كل هذا الخراب والدمار والضحايا، لهي أوضح مثال على ما يُعِدّه الأسد لسورية؛ في حال تمكنه من استعادة السيطرة الكاملة على سورية وشعبها.