لو قُدّر، لآرثر جيمس بلفور، أن يشهد مصير الوعد الذي أطلقه قبل مئة عام، بإعطاء اليهود فلسطين وطنًا قوميًا؛ لرقص مزهوًا، لا لتحقيق الوعد فقط، بل لتبنيه من أطراف كانت في البداية تعبّر عن رفضها له، فـشعار “أرض بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض”، صاغه أنصاف الثوريين والطغاة بديلًا عن بلفور الأمس.
في سنوات الربيع العربي الكاشفة، تمسك النظام الرسمي العربي بوعده المُكمل، وكانت معادلته إما نحن وإما قلق على الوعد، حتى أصبح في كل وطن وتحت كل كرسي حكم، يقبع بلفور عربي، يحكم ويتحكم، يحارب ويدمر، خوفًا على الوعد الذي أصبح خطاب قسم “وطني”، في السرّ والعلن.
سنة واحدة بعد مئوية بلفور يصل أصحاب الوعد إلى عواصم عربية، يعزف النشيد الوطني “هتيكفا”، بينما أصحاب الأرض الأصليين وأشقاؤهم يذبحون في مخيمات اللجوء، وعلى الحدود العربية، منعًا للدخول وإمعانًا في الإذلال والقهر. تتفاخر الصهيونية ميري ريغيف ببطولة “الصهيوني”، من أراضي العرب.
منذ سنوات، نبتلع لغة الاستسلام والهزيمة جرعة جرعة، ومن مذبحة إلى مذبحة، يحقق بلفور العربي للوعد الصهيوني حضوره القوي، ومن مستنقع الشعارات الآسنة بعبارات “الممانعة والمقاومة والتصدي للمؤامرة”، يمُرر صهاينة الخفاء علنية مساومتهم، على جثث وحطام الأوطان، مقايضة كرسي الحكم بحماية الوعد والخرافة.
بلفور العربي الذي يقتل شعبه فردًا فردًا، ويتفاخر ببطولات عصاباته، من قيم مستوردة من قاموس “محاربة الإرهاب”، يحوّل شعبه إلى أصفار وذباب وجراثيم، وفق منطق الاتكال على شرعية مستوردة من قواميس إعطاء الديمومة للطغاة والاحتلال. لم تعد المسألة أن نتذكر وعد بلفور كل عام، في الثاني من تشرين الثاني، مرّ قرنٌ على اجتراع ذكرياته الأليمة، ومرت سنوات سبع كانت كافية لاكتشاف مئوية بلفور كيف مرت علينا. لم نعد بحاجة إلى أكثر من هذه الفجاجة والوقاحة والعلنية التي امتلأت صفحاتها، ببقع الدم الفلسطيني والسوري.
المعركة مع بلفور الأول كانت، وستبقى، على حقنا في الوجود وفي الأرض، ومع بلفور العربي معركة لا تنتهي، ولن تكون أقل من عراك الوعد الأول، شراستها تبدت في حجم الحطام الذي خلفته على أيدي بلفور مخلوف السوري الذي قال ذات يوم سوري عبارته: “أمن إسرائيل من أمننا”. لحظة انفجار البركان السوري، إنه الوجه الحقيقي لبلفور العربي، بلا رماديات، وبضوح تام وشفاف، نحن الأقدر على حماية حدود الموعودين قبل مئة عام، لا خلاف بين علنية البلافرة في خليج العرب، ولا الرمادية في “قلبهم النابض” في دمشق، على أن صراعهم مع شعوبهم مبني على مقاومة الوعد المتبادل.
لن يُثبت الفلسطينيون، بعد مئة عام، شرعيةَ أرضهم، ولن يثبت السوريون بعد خمسة عقود من الاستبداد سقوطَ شرعية الطاغية وشعاراته، بل استطاع السوريون في سبعة أعوام إلغاء اللا شرعية المطلقة والكثيرة عن الأبد والشعارات الآسنة، لذلك كله أصبحت صكوك “الوطنية”، مع بلفور العربي معقدة وذليلة، ليس فقط لمشهد الوزيرة الصهيونية ميري ريغيف تتجول في المساجد التي تحتقرها، ولا لعلنية الاحتفاء الصهيوني بقوات الأسد الحامية لحدوده الشمالية في الهضبة، وإعادة سيطرته بالدمار والتهجير على عموم سورية، بل لأن الوعد يستمد “استمراره” من بلفور السوري والفلسطيني والخليجي والعربي والروسي والإيراني والمصري… إلخ. من البلافرة المشغولين بتزييف وعي المنكوبين.
بلفور العربي لم يعد خجولًا من استنساخ وعودٍ أخرى وبيعها، أو التبرع بها لقاء خدمات متبادلة. لقد مزج بلفور العربي مع وعود الأمس والأصل ما لا يُمزج، مقاومة الاحتلال وممارسة كل ما نتج عنه بتفوق على الأوطان. كانت نتيجة هذا الوعد الذي انتظرناه على سبيل المثال أن يُبنى تمثال لحافظ الأسد على حطام مدن سورية، ووقفة ذليلة أمام ضريحه في القرداحة، أو مشاهدة ميري رغيف تتجول في مساجد عربية وتتفاخر بالقول: “ألم أقل لكم إن نشيد (هتيكفا) سينشد في عواصم عربية أكثر”.
لا رمادية في المواقف، ولا رمادية في الاصطفاف، علنية الإيحاء بالعمل ضد بلفور هي أهم الأكاذيب الضخمة التي سقطت، وما ثبت خارج المرحلة الرمادية، بعد قرن بلفور الأول، أن إسقاط الطغاة والمستبدين، وإقامة المواطنة والحرية والكرامة، هو هزيمة لكل الأساطير وخرافات القائد الضرورة وهزيمة استحالة البدائل.