أدب وفنون

عناق الحياة والحرية في مسرحية (معانقات) السورية

يُعلن ميكال دوفران في كتابه (فنومنولوجيا التجربة الاستطيقية) أن تجسّد الشيء الجمالي يحضُر بحرية، منذ النظرة الأولى للأثر الفني، سواء أكان نصًا أدبيًا أو شعريًا أو لوحة فنية أو قطعة موسيقية أو قطعة مسرحية… لذلك يحمل هذا الشيء الجمالي شرفًا وامتيازًا كبيرين في عمق العالم. لكننا لا ننفي تواصُله مع بقية الأشياء اليومية المستعملة في هذا العالم. فعلى الرغم من أنه يُعانقها فإنه قد يُفارقها أحيانًا ويتجاوزها، بفعل الحركة الفنية الحرة. فالجمال في المسرح الحركي كالروح التي تُحيي شيئية العالم وتُثبتها في كلية متسامية عن الأشياء اليومية بطريقة متناسقة.

بذلك يُحقق المسرح الحركي الطور الذي يسمح له أن يتجرد من عبودية الشيء ليُعانق صيرورة الحياة. ولعل لحظات المسرحة في (معانقات)، تُبين أنها ليست لحظات مستقلة عن العالم الحي. تبدو هذه اللحظات الفنية كتمرين مسرحي، تتساءل فيه الفنانة نورا مراد عن مستقبل الوضع في سورية. إضافة إلى قدرتها على رسم تصدع علاقات الإنسان مع الأشياء. ألا يمكن أن تكون هذه المسرحية لوحةً تجسد التفكير الأنطولوجي للمخرجة في أشياء العالم، وطورًا يسمح لنا بضبط الحركة الملتزمة للفنان؟

يقوم الفن السوري على التجربة في الممارسات المسرحية، التي ترتكز على سيميولوجيا فن الحركة، في تجسيد النص وتفعيله جسديًا أمام الجمهور. تشهد هذه الحركة البصرية الحرة تطورًا إبداعيًا جميلًا داخل الحركة المسرحية السورية المجسدة -تشكيليا- على خشبة المسرح. وهكذا، قد تكون المخرجة والممثلة المسرحية السورية نورا مراد من المُبدعين الذين أسسوا لتصميم هذه الحركات الراقصة. مع العلم أنها خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، قسم التمثيل، سنة 1995، وكانت قد أسست فرقة مسرحية سنة 1999، أطلقت عليها فرقة ليش المسرحية (تُعتبر أول فرقة سورية تتفرد بالمسرح الحركي)، وبالتالي عملت بحبكة فنية منذ سنة 2000، فنظمت ورشات عمل إبداعية، جمعت بين الهواة والمُحترفين في فن الأداء المسرحي.

عالجت أعمال نورا المتنوعة أشياء العالم الطقوسية عند الولادة والموت والزواج… فتفردت بموقف فلسفي إزاء هذه الطقوس، وكذلك بالنسبة إلى مسرحية (معانقات) التي عُرضت هذه السنة، وهي من إنتاج دار الأوبرا السورية وصندوق الدعم العربي (آفاق). وبالتالي، جسدت المسرحية هذا الفن الرفيع، وعبّرت شخصياتها عن مأساة الإنسان السوري، عن طريق رُموز تشكيلية متحركة وتعابير فنية جمالية ورُؤى تجريبية مُتطورة في فن المسرح الحركي. وبهذا المقتضى، عاصرت كل شخصيات المسرحية (لارا بخصار، سارة المنعم، سماح غانم، ظريفة راجحة، فرح الدبيات، مجدي المقبل، مجد عريج، حازم الجبة، زين العابدين سليمان)، مواضيع حية وصورت الرقصات حكايات واقعية، فتفاعل المتقبل مع الانفعالات الحية وتقاسم معها القضية.

كما استمدت المخرجة قصة مسرحيتها المتكونة من ستة مقاطع، من نص كتاب (المعانقات) وكتاب (أفواه الزمن)، للكاتب والباحث الصحفي إدواردو غاليانو الذي كابد آلام المنفى في كل من الأرجنتين وإسبانيا. ولعل ثراء كتاب (المعانقات) ورمزية وعمق أبعاده الفانتازية الحالمة وغزارة شعرية كتابته الروائية، ما حرك روح الإبداع لدى المخرجة، للعمل عليهما والاستفادة من الكتابين.

كشفت المسرحية فلسفة الحياة، بكل ما تحمله من وجع وخوف وآلام وآمال وصمود، ووقفت عند التعاليق الرمزية التي أثرى بها غالينو كتابيه. فكان تجسيد نص المسرحية حركيًا وعاطفيًا ونفسيًا، عن طريق الشخصيات وانفعالاتها الحسية المُربكة والمُتشظية بنار الحرب، محاولة التعبير عن أزمة الانقسامات الحادة في مجتمعها الذي يُعايش وضعًا سياسيا متأزمًا. حاولت المخرجة استكمال البعد الرمزي للكتابين، عن طريق إحياء رموز فن الأداء الحركي والتعبير عن الأحاسيس، بالجسد الراقص على خشبة المسرح.

بهذه المسرحية، عادت نورا إلى الأس النقدي الذي اشتغل عليه غاليانو في هذين الكتابين، فحاولت تجسيد فكرة فلسفية في فن الحياة، حين أعلنت على لسان إحدى شخصياتها أن “أول حركة للكائن البشري هي العناق”. لقد تساءلت شخصيات المسرحية عن سر هذه الحقيقة، من خلال الحركات الراقصة والمتعانقة على أنغام الجمال. وفي الواقع، اعتبر غاليانو أن هذه الحركة هي الشرط البشري في الوجود الخلاق. لذلك تنبهت المخرجة إلى أن الإنسان يسعى إلى التواصل مع الآخر عبر العناق، وتؤكد وجود هذا الفعل الذي يُوازي صيرورة الحياة وحب البقاء؛ إذ تقول إحدى شخصياتها: “يقولون إن المسنين في آخر أيامهم يموتون، وهم يرغبون في رفع أذرعهم”.

وعلى الرغم من أن مسرحية (معانقات) السورية قد غلب عليها الصمت في مجمل فصولها، فإن لهذا التعبير الصامت لُغة لا يتفهمها إلا القارئ المبدع لفن المسرح الحركي، ولا يُتقنها إلا المتلقي المُدرك لقيمة الحركة الجسدية، ولا يُعايشها إلا الجسد المُنفتح على العطاء الحُر. فالجسد المتمثل رُكحيا هو الذي يجب أن يُدركه المُشاهد المبدع، لأن الذي يُباشره المتلقي، ليس مجرد جسم أمامه، بل هو الجسد الذي يحملُه معه كإنسان ويُدرك من خلاله العالم، فبالجسد أكون في العالم ويكون في. وهذا هو نفس الجسد المُتمثل مسرحيًا.

يتجسد الجسد عبر الممارسة المسرحية وعبر حركات معبرة بالرقص، فيُضفي معنى مدركًا إلى العالم. ومع ذلك، يتحدد في البدء هذا الشيء الجمالي كصورة متمثلة في ذهن المخرجة، في إرادة الانعتاق من الشيء اليومي، لتتمثل بعد ذلك، بعمق الحركة الخارجية الراقصة على خشبة المسرح: عناق الحياة والحرية. لكن هذا العناق، لا يقف عند هذا التعين المتمثل أو المثبت على خشبة المسرح، ولا يبقى كذلك عند حدود التفكر المجرد للفنانة؛ بل إن حركته المبدعة هي في مدى تواصله مع الآخر والالتزام بقضيته. إن هذا الفعل التواصلي للعناق هو الذي سيُحرر الأثر المسرحي ويدفعه إلى تجاوز التمثل الصوري المجرد لشيئية العالم. ففي هذا الفعل التواصلي، إرادة للحياة وللحب وللتعامل الجمالي مع أشياء العالم.

ضمن هذه المعالجة الجمالية، نرى أن المسرحية تسعى لعناق العالم الحي الذي يقبل التواصل الفاعل. بل إن نورا تُنبهنا في مسرحية (معانقات) إلى ضرورة تفكيرنا في السمو بأشياء العالم، لأن الإنسان لا يمكن أن يدخل في حميمية مع العالم إلا ليُرسخ مبدأ أو إرادة أو قضية ما… لذلك يُفعل الإنسان/ الفنان تماثُله مع العالم كند له. وفي جميع الحالات، فقد تجوهرت المسرحية كبداية أولية لهذا التفعيل، وانتقلت بذلك إلى لحظة ملتزمة بتصيرها كموضوع حر تُساهم في بناء إنية الذات المقاومة بحركاتها الراقصة. وكأن هذه الحركات الراقصة تُريدُ أن تُعلن للآخر أنها ما تزالُ حاضرة في العالم، رغم إبادة الحرب لشيئيات الإنسان الخاصة. إنه بالأحرى الالتزام بعمق القضية وجوهر الإنسان في هذا العالم. هذا هو الوعي العميق الذي يظهرُ لنا في مسرحية (معانقات) السورية، وتلك هي الذات السورية التي تتجسدُ بشموخها المُبدع في العالم ومع العالم. بل إن صيرورة الذات المتمثلة رُكحيا هي التي تستوجبُها منظورية الحركات الجسدية الراقصة. حيث يقوم الجسد الحركي الراقص في هذه المسرحية على فلسفة جمالية حُرة وفاعلة، لأنها تُدرك دلالة كل حركة راقصة، مثلما يُدرك الفنان التشكيلي كل لمسة لون وكل حركة خط.

تكتسي هذه الحركات الراقصة في مسرحية (معانقات)، أفعالًا واعية بقيمة الجسد الفاعل، وقدرة على التحقق في العالم والانخراط المتسامي فيه. لقد لاحظنا، من خلال حضور الجسد الإنساني، الدلالة الرمزية المتعينة بقوة في المسرحية. ويُجسدُ الحضور الجسدي الراقص على خشبة المسرح، الإدراك الواعي لآلام الحرب، فتُشحن أغلب الحركات بقيم تعبيرية ومواقف واعية بإرادة الفعل الحيوي للفرد وللمجموعة، ومن دون هذا الجسد الراقص لا يكون المكان ولا العالم.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق