مقالات الرأي

ما العمل؟

يعلم معظمنا أن “لينين” هو صاحب هذا التساؤل الكبير، وقد جعله عنوانًا لكتابٍ من أشهر كتبه، طرح فيه أن سؤال “ما العمل؟” يجب أن يُسأل على الدوام، وأن يُطرح في كل مرحلة؛ فلكل مرحلة “عملها”، وتبقى “ما” للاستفهام والدلالة على ماهية ما يجب عمله وأولويته وجدواه. كما أن السؤال ذاته “ما العمل؟” ينضوي على حقيقة أن هناك دائمًا عملًا يمكن/ يجب القيام به.

شكّلت الهزائم والخيبات والانكسارات التي مرّ بها واقعنا العربي، صحوة فكرية، أو منعطفًا فكريًا، للعديد من المفكرين والأدباء؛ والمثال الأنصع لذلك، العمل الذي أنجزه العديد منهم بُعيد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، بدءًا بياسين الحافظ وهشام شرابي وعلي زيعور وليس انتهاءً بسعد الله ونوس. وقد تأسست وتشكلت تلك الصحوة بناءً على مراجعات نقدية قاموا بها، شملت كامل مقومات ومرتكزات ومعطيات الواقع العربي آنذاك، الثقافي والفكري والسياسي والاقتصادي، من الأسرة والتعليم، إلى الهوية والذات والأيديولوجية، مرورًا بمسائل بنيوية أخرى: الآخر، الأصالة والحداثة، الديمقراطية وغيرها.

استهدفت تلك المراجعات معالجة الواقع عن طريق تحليل بُناه الأولية، واستقراء واستنتاج تداعياتها، وانتجت بعد هذا الاستهداف مصفوفة فكرية متكاملة، من شأنها النهوض بذاك الواقع، بوصفها مرجعية وعي “ذاتي وموضوعي” تؤسس لآليات تفكير غائبة عن واقعنا. إذًا؛ فالعمل مرهون دائمًا بوعي الواقع في سبيل تغييره، لينتج عنه رؤية تقدم حلولًا للنهوض به، تُترجم إلى ممارسة، بشقيها الفكري والسلوكي.

وبالعودة إلى السؤال الكبير: ما العمل؟ وطرحه على حالتنا اليوم، بعد مضي ما يزيد عن سبعة أعوام من الثورة السورية، وما آلت إليه؛ سنجد أن إنجازات الثورة لم ترتق إلى مستوى ما قدمته من تضحيات، بل إن تلك التضحيات العظيمة ستذهب سدى ما لم تدرك الثورة أخطاءها، وما لم تسع لامتلاك منهج محدد وموحد في آن. الأمر الذي يستوجب -من باب الوفاء لشهدائها ومعتقليها وجرحاها ومهجريها- الوقوف على مجرياتها وتأمل انحرافاتها وأسباب عجزها عن تحقيق ما صبت إليه. وسنجد بالتالي أن مسؤولية السوريين تتلخص بتقديم مراجعات نقدية حولها، مراجعات تشمل مقومات ومرتكزات ومعطيات واقع الثورة، بدءًا بأخلاقياتها وانتهاءً بتمثيلها السياسي، ومرورًا بالإشكاليات التي مثّلت معيقات إنجازها، وتركزت في دائرة ذاتها الثورية، من حيث الهوية والوسائل والآليات والأهداف، وهو ما رأينا تعدده وتشتته وتصارعه. أي أن هذه المراجعات عليها أن تبدأ من الفردي وتتجه نحو الجمعي، بوصفه كل ما ينتمي إلى هذه الثورة. ولتبلور المراجعات جميعها رؤيةً تكون دليل عمل/بوصلة في المرحلة القادمة. فالثورة هي حركة مستمرة لا تعيبها الأخطاء والانكسارات، بل يعيبها هزيمتها، والوقوف موقف المتفرج إزاء أسباب وعوامل تلك الهزيمة.

لتلك المراجعات أولوية عظمى في توصيف الخلل وطرح الخطوات اللازمة لتقويمه، فمن دونها سيظل واقعنا أسير هزيمته. وسيبقى محافظًا على إمكانية الهزيمة من خلال احتفاظه بمفاعيلها الكامنة. وإن أي استمرار دون إنجاز هذه المراجعات هو جهد بلا طائل، ولا يتعدى كونه “محاربة طواحين الهواء”.

تلقى مثل هذه الدعوات على الدوام، تأجيلات وتسويفات تحت مبررات وذرائع شتى، كالقول إن معيقات عمل كهذا أكثر من ميسّراته، أو القول إن إنجازه يحتاج إلى وقت طويل، أو العبارة الأكثر تداولًا وتبريرًا: ليس الآن وقته المناسب. هذه المبررات هي كدفن الرؤوس في الرمال، أو التعامي عن واقع الحال، وجلّ ما تفعله هو تأجيل ومفاقمة إشكاليات الواقع والاستمرار في احتمالية تكرار الهزائم. إن “المراجعة النقدية” كـ “عمل” لا تخرج البتة عن إطار العمل الثوري بحد ذاته. بل هي أس منظومته، وتحدٍ لوجوده وإنجازه، فنحن إذ نقول ثورة، فهذا يعني أن الجميع معني بها، وكلٌ من مكانه واختصاصه، لتصبح محصلة تلك المراجعات، نقطة تحول في مسار الثورة ومركز انطلاق استئنافي لها، مبني على الوعي، طارد لكل ما يعكر صفو مبادئها وأهدافها.

قد يقول البعض بعدم جدوى تلك المراجعات، في ظل إجماع الدول الكبرى على إجهاض الثورة والوقوف في وجه انتصارها. وأقول إن هناك تجارب عديدة لثورات ونضالات انتصرت وأثمرت، على الرغم من تفاوت ميزان القوى بينها لصالح أعدائها -كالحرب الأميركية الفيتنامية- ومن هنا؛ فإن التعويل يتجه أولًا ودائمًا إلى الوعي الجمعي لأصحاب المشروع، وفي حالتنا السورية هم متبنو الثورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق