قبل ما يقرُب من ثلاثين عامًا، في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1989، انهارَ جدار برلين، لتنهار معه واحدة من أعقد حِقب التاريخ الحديث، وأشدها تأثيرًا في الخرائط الجيوسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي وسَمَت عقودًا بأكملها من القرن العشرين، كانت خلالها مدينة برلين بمثابة خط المواجهة الأول بين المعسكرين اللذين تفرّدا بسيادة العالم في مرحلة ما عُرِف بحقبة الحرب الباردة. وفيما يتجاوز الواقع السياسي الذي كرّسه الجدار في القارّة الأوروبية، كان ذلك الحاجز الإسمنتي المسلّح بمثابة رمزٍ سرمديٍّ شاخص أمام البشر، لتأكيد واقعهم وتذكيرهم بديمومته، وفقًا لما يقوله الألماني بيتر شنايدر مؤلّف كتاب (برلين الآن: المدينة بعد الجدار) الذي صدر عام 2014 تزامنًا مع الذكرى الخامسة والعشرين لسقوط الجدار.
بدَت الأنظمة التي انهارت في بلدان أوروبا الشرقية، بعد وقتٍ قصير من سقوط جدار برلين، مثل أنظمة تشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا، لوهلةٍ وكأنها أنظمة مصنوعة من أبدٍ منيع يسوّره الخوف الذي استثمرت فيه الدولة البوليسية جُلَّ طاقاتها، وسهرت على تكريسه ورعايته انطلاقًا من طبيعتها ووعيها لنفسها، بوصفها كياناتٍ تحيا على الخوف وبالخوف. كان الانهيار المباغت لتلك الأنظمة درسًا تأسيسيًا في قراءة المشهد السياسي العالمي الذي سيصفه فرانسيس فوكوياما في وقتٍ لاحق بـ (نهاية التاريخ). كان الانهيار بالغ الدلالة، ليس فقط لكشفه حالة “عدم الاستقرار الكامن في جميع الأنظمة الدكتاتورية”، وفقًا لتعبير روبرت كابلان صاحب كتاب (انتقام الجغرافيا) 2012، بل لأنَّ الحاضر -مهما بدا سرمديًّا وساحقًا- زائلٌ لا محالة. أمّا الثابت الوحيد، يضيف كابلان “فهو موقع شعبٍ ما على الخريطة”، والخرائط، وفق ما يذهب إليه كابلان في مقدمة كتابه، تُشكِّل بدايةً لاستبصار أي منطق تاريخي، حول ما قد يحدث لاحقًا.
كنتُ قد شاهدتُ قبل عدة سنوات فيلم (وداعًا لينين) الذي رصد بقالبٍ كوميدي ساخر جانبًا من حياة الجانب الشرقي للمدينة، من خلال حكاية أمٍّ من ألمانيا الشرقية يهرب زوجها الذي يعمل طبيبًا إلى ألمانيا الغربية لرفضه الانضمام الى الحزب، فيما بقيت هي في ألمانيا الشرقية مع طفليها، بل واجهت التحقيقات الاستخباراتية التي تتهم زوجها بولائه للإمبريالية، من خلال انضمامها إلى الحزب والدفاع عنه بشراسة، لتصبح اشتراكية أكثر من الاشتراكيين أنفسهم، إذ يقول طفلها في إحدى لقطات الفيلم: “لقد قرَّرتْ أمي أن تتزوج الوطن، وتنسى معه زوجها، فابتعَد عنها المحققون”. وبغض النظر عن الخلاف الأيديولوجي الذي قد يثيره الفيلم، فإنه قدّم ببراعة فنيةٍ لافتة صورةً لواقعٍ مزيّف، تصوغُ العزلةُ قوانينه ويحكمه الخوف والتوجُّس وسياسات كمّ الأفواه وذرّ الرماد في العيون، ولربما قبل ذلك كله، الاستثمار في الكراهية وتربية الأحقاد، لا لشيء سوى لإدامة السلطة.
في نهاية المطاف؛ انتصرت “حتمية الجغرافيا” (التعبير مستلفٌ من كابلان مرة أخرى) وسقط الجدار لتتوحّد ألمانيا من جديد، وليكتشف شعبها فداحة الخديعة الكُبرى التي قسمته على نفسه. ومثلما نعلم اليوم، فقد غدت برلين أنموذجًا للمدينة المتعافية التي تحتضن بشرًا من مختلف المنابت، انضمَّت إليهم جاليةٌ لا يستهان بعدد أفرادها من اللاجئين السوريين الذين أُجبِروا على ترك ما تبقّى من بيوتهم وقراهم وبلداتهم ومدنهم، وركوب أعتى الدروب هربًا من حربٍ شنّها عليهم نظامٌ يتغذّى على الكراهية ويستثمر في الخوف، ويزدهر كلما استشرى الحقد وتفاقمت القطيعة بين أبناء البلد الواحد. نظامٌ فتح على شعبه أبواب الجحيم لمجرّد أن هذا الشعب تجرَّأ ذات ربيع على تعرية الأبدية الزائفة، مطالبًا بحقه في الكرامة أولًا وقبل كلّ شيء.
على الجانب الشرقي لجدار برلين، كان ثمّة منطقة عازلة تحرسها الألغام والأسلاك الشائكة، كما هي الحال في البلاد التي يسوّرها الطغاة بالخوف، أمّا على الجانب الغربي، فكان الزائر للجانب الغربي من المدينة يرى رسومات الغرافيتي الملونة التي غلب عليها الطابع الساخر واليقين بالزوال الوشيك لهذا الفاصل القسري الذي فرضته السياسة على البشر والجغرافيا، في جدليةٍ أضحت اليوم من الثوابت الكلاسيكية؛ إذ مهما طال أمد هذه السياسات، لا بدّ للبشر وفضاءاتهم الطبيعية التي تشكِّل حياتهم في نهاية المطاف من أن يدفعوا بخياراتهم إلى الأمام، ذلك منطق التاريخ الذي أنكرته الدولة الشمولية متوهّمةً قدرتها على تطويع مساره بما يعاكس النزوع البشري نحو الحرية التي بغيرها لا يستقيم حالُ مجتمعٍ بشري، مهما بدا متماسكًا وَ”مُلتفًَّا حول قيادته”، بذلك فقد كان خريفُ الشمولية أسرع وأشد مما تخيّل “بطريركاتها” الذين تنقصهم الحكمة الماركيزية، وهم الذين أغلقوا على أنفسهم غرف الصدى منغمسين في نشوةٍ مديدةٍ من اليقين الزائف.
قبل ما يقرب من ثماني سنوات، أيقنت شرائح واسعة من الشعب السوري أنَّ الأبد الذي صنعه حافظ الأسد على مقاسه، ثمَّ أورثه لابنه مثل بدلةٍ “فاتت موضتها”، لم يكن سوى وهمٍ من أوهام الطغاة الكثيرة رعتها “الدولة المتوحشة” بشتى ضروب القمع والإفساد المنهجي للبنية المجتمعية، والتقويض الخبيث لصورة الهوية الوطنية للسوريين. أدرك السوريون في سوادهم الأعظم أنَّ تلك كانت نقطةً لا تراجع بعدها، وليس ذلك من فائض حكمةٍ لديهم، بقدر ما هو السير في اتجاه المجرى الطبيعي لحركة التاريخ والمجتمع البشري، غير أنَّ الطاغية الحبيس في أوهامه وخوفه يرفض -مثل طاغيةٍ تقليدي- أن يرى هذه الحقيقة التي حاول عبثًا دفنها تحت ركامٍ من جماجم السوريين ورُكامِ حياتهم.
تقول الروايات الاستخباراتية إن الوضع الصحي للأسد الأب، قبل وفاته بسنوات، لم يسمح له بالعمل لأكثر من ساعتين في اليوم. فمَن الذي كان يحكم البلاد إذن طيلة السنوات الأخيرة التي سبقت انصراف الطاغية إلى العالم الآخر؟ لعلها الصور والتماثيل التي انقضّ عليها السوريون، في لحظة كشفٍ طال انتظارها. أدرك السوريون زيفَ هذا الأبد المزعوم، وقرروا استعادة مجالهم العام، على الرغم من مشقّةِ هذا المسار وهَولِ الأبوكاليبس الذي أطلقه نظام “الدولة المتوحشّة” وحلفاؤه، وفائض الحقد الذي كشف عن جوهر النزعة التدميرية لدولة الاستبداد والفساد، وعن أبدها المحكوم بالفشل.
كان من المؤسف أن قطاعاتٍ من السوريين اشتروا الأوهام التي لفّقها نظام الأسد من قبيل عِلمانيته ودفاعه المزعوم عن الأقليات ومحاربته للتطرف والإرهاب، وهو الشريك التاريخي للإرهاب من بيروت إلى بغداد. لقد اختار هؤلاء مشاركة نظامٍ يرى في نفسه الدولةَ وفي الدولةِ نفسه، في إقامة جدارٍ بينهم وبين سائر السوريين المنتفضين من أجل كرامتهم وحاضرهم ومستقبل أبنائهم؛ اختاروا أن يكونوا في جانب القاتل الذي أوهمهم أنه الوطن، وأنَّ ما تراه أعينهم وما يصل إلى مسامعهم عن المذابح والتدمير المنهَجي ليس سوى أوهام في تكرارٍ تراجيدي للمشهدية التي سبق أن رصدها جورج أورويل: “لا تصدّقوا أنفسكم، يقول الطاغية لتابعيه”.
لن تكون بعيدة اللحظة التي سيسقط فيها آخر جدران الوهم المهترئة التي شيّدها الطاغية لحماية نفسه وعزلِ جمهوره، وفيما سينشغل عموم السوريين بترميم ما لحق بحياتهم من خراب، سيكون على آخرين أن يبدؤوا بمراجعة الدروس في معنى الحرية والهوية الوطنية. يقول التاريخ، فضلًا عن الجغرافيا، إن الشعوب هي من ينتصر، وإن أبد الطغاة من ورق.