تحولت الثورة السورية التي بدأت في آذار/ مارس 2011، إلى حرب طاحنة أرهقت المجتمع السوري بمكوناته كلها، وتسبّبت في تفتت نسيجه الوطني، لتصبح بذلك واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية المعاصرة، وفي ضوء المبادرات الإقليمية والدولية الحثيثة الرامية إلى تخفيض مستويات العنف في سورية، تبرز الحاجة إلى إدارة المرحلة المقبلة، في سبيل إعادة بناء المجتمع السوري والدولة السورية، فقد سببت الحرب الدائرة شروخًا عميقة في المجتمع السوري بدءًا من الوحدة الأصغر، العائلة، وصولًا إلى البلد بأكمله، ومن المعضلات التي تواجه السوريين المسألة الكردية في سورية، هذه المسألة التي تداخل فيها المحلي مع الإقليمي، وعمّقت الهوة التي كانت موجودة قبل عام 2011، ولضرورة دراسة وإيجاد حل لهذه القضية في إطار الدولة السورية المقبلة، كانت هناك -وما تزال- حاجة ملحة إلى حوار بين جميع مكونات الشعب السوري من أحزاب، إثنيات، طوائف، ومنظمات مجتمع مدني.
الدولة – النظام السوري
الدولة السورية الحديثة هي نتاج لترتيبات وتقسيمات وضعتها الدول الكبرى في بداية القرن العشرين، خلقت مجتمعًا متعدد الإثنيات والطوائف، وقد نتجت عن التجربة التاريخية المشتركة بينها، في الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، ومناهضة الدكتاتورية والنظام الشمولي، روابطُ وطنية وجهود لإيجاد شكل من أشكال الهوية الوطنية الجامعة، وتحققت مجموعة من العلاقات المبنية على عوامل ثقافية ودينية واجتماعية وخلاقية، وتكيفت هوياتها الخاصة مع الواقع الجديد[1].
إلا أن السلطة السياسية في سورية، تحديدًا منذ تسلم نظام البعث في 8 آذار/ مارس 1963، عملت على تشويه العلاقات بين قطاعات المجتمع السوري، وأتقن النظام طوال فترة حكمه فنّ إدارة الصراعات المحليّة في سبيل التحكم في الدولة والمجتمع؛ ما أدى إلى فشل الجهود الرامية إلى إنتاج هوية وطنية جامعة، وتحوّل التعدد الإثني والطائفي من نعمة إلى نقمة، وعمل النظام في سعيه للمحافظة على السلطة على تقوية الهويات الأهلية ما قبل الوطنية (الدينية والقومية) على حساب الهوية الوطنية، وأنتج لغة تطغى عليها الاتهامات بالخيانة والارتهان للخارج والتخريب[2].
الثورة السورية
انطلقت الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، ضد نظام مستبد وفاسد، نظام فرض على السوريين العزلة، وعدم التواصل والتعرف إلى آلام وأمال بعضهم البعض، ولم يبدؤوا كسر هذه القاعدة إلا مع بداية الثورة السورية، حيث شرعوا بالتعرف إلى بعضهم، من دون حواجز.
إلا أن النظام السوري، بحكم طبيعته التسلطية المركزية، جرّ المجتمع السوري برمته نحو دوامة من الاضطرابات طويلة المدى[3]، وامتدت الاختلافات إلى الاختلال في العلاقة بين الفرد والفرد، وبين الفرد والمجتمع. ووصلت حالة الانقسام السوري التي أنتجها النظام، وتلونت بها أطراف المعارضة الأخرى على المستوى الجمعي، إلى “وطني” وإلى الآخر “البعيد/ الخائن” الذي يوصف بالتحقير والشماتة. أضف إلى ذلك تغلغل قوًى إقليمية ودولية في الصراع الدائر على الأراضي السورية، باتت شريكة في كل زاوية من سورية، ما أدى إلى انكفاء الهويات ما دون الوطنية على ذاتها وانعزالها[4].
تداخلت في سورية جميع أشكال المظلوميات ونظريات المؤامرة، وبدأ صناع الرأي في كل مكون يسيرون في تفسير مظلومية مكونهم، مستندين إلى مئات الآلاف من الأدلة لادعاءاتهم، ومع مرور السنوات في الأزمة السورية، ازدادت قوة هذه المظلوميات، وازداد معها الوضع السوري تشظيًا. وتراجعت الثقة المجتمعية في سورية بنسبة 58% [5] عما كان قبل 2011، نتيجة عسكرة النزاع والتسيس الهوياتي للمجتمع.
العمل على التغيير
فرضت الحاجة على السوريين، للخروج من سجن الاستبداد الذي صادر كرامتهم الفردية والجمعية، العملَ على إعادة الهوية السورية، وكانت الأهزوجة التي ترددت في أنحاء سورية: “واحد، واحد، واحد الشعب السوري واحد”، ذات دلالة واضحة تجسد حالة واقعية في سورية، فكانت أشبه بالبرنامج العملي للحراك الثوري بين الناشطين[6].
أيقظت الثورة السورية الأنفس والهموم، سواء نتيجة الكم الهائل من مظاهر استبداد السلطة أو من عبثية السجالات الأيديولوجية والهوياتية بين المفكرين والمثقفين، التي انعدمت معها لغة الحوار والاستماع للآخر[7].
فكانت المسألة الكردية، التي تتجاوز حدودها سورية، واحدة من أهم القضايا التي أخذت حيزًا في السجالات بين السوريين والانقسامات، وقد جاء ذلك نتيجة طبيعية لعقود من انقطاع التواصل السياسي والمجتمعي بين السوريين، في ظل احتكار السلطة للمجال العام، واستلاب الأفكار من قبل طغمة تسلطية فاسدة.
العلاقة العربية – الكردية
إن البحث في التاريخ القديم عن الأصول التاريخية لشعبٍ ما، ونقائه العرقي وارتباطه ببقعة جغرافية محددة، غير مجدٍ في العصر الحالي. لذا، ولتجاوز دوغمائية العلاقة المتبادلة بين الأكراد وباقي السوريين، نبدأ من تاريخ سورية المعاصر، أي منذ بداية تأسيس الدولة الحديثة في بداية القرن العشرين. حين نشأت الدولة الوطنية، التي كان عليها أن تستوعب الهويات السياسية الناشئة على أساس الانتماء إلى الوطنية السورية[8].
تزامن نشوء الهوية القومية الكردية في شكلها السياسي، مع نشوء الهوية العربية سياسيًا، وتبلور مفهوم نشوء الدولة الوطنية الحديثة، وسار الخطاب القومي الكردي في الطريق ذاته الذي سارت فيه النماذج القومية التي سادت المنطقة، بدأ المأزق الكردي في سورية من إشكالية مطالب ونشاط الأكراد في إطار الدولة السورية، خطاب “وضع خاص”[9] للكرد، في مقابل تصور الدولة السورية الذي نقلته إلى المجتمع السوري على مدى عقود، بأن الأكراد يشكلون تهديدًا للوحدة الوطنية والسيادة في سورية[10]، لعدم استطاعة الدولة أن تستوعب -أو لأنها لا تريد أن تستوعب- الأكراد على أساس هويتهم.
تركَّزَ الحراك الكردي في الاحتجاج على إقصائهم عن المشاركة الفعلية في إدارة مناطق وجودهم، و”التعسف” الذي يتمثل بحرمانهم من حقوقهم الثقافية واللغوية، ومحاولة تجريدهم حتى من الاعتراف بهويتهم القومية. ولذلك، تكثفت المطالبُ الكردية بـ “الإدارة الذاتية” للمناطق ذات الكثافة الكردية. غير أن الدولة التي ناضل ضدها الأكراد هي الأنموذج التسلطي الذي عاناه السوريون أنفسهم، إذ تغيب المشاركة السياسية، وتختفي الحريات المدنية، وتتغول السلطة التنفيذية، ويُعسكر المجتمع[11].
كان للعامل الإقليمي دور واضح في إثارة المسألة الكردية في سورية، من جهة أنها مشكلة عابرة للحدود في دول المجال الكردي[12]. حيث كان التيار القومي الكردي ينتقل على جانبي الحدود لهذه الدول، من دون مراعاة خصوصية كل دولة.
إن الخطوة الأولى في الطريق إلى حل المشكلة هي الكف عن النظرة التاريخية إلى المسألة، والانتقال من الصراع القومي إلى الحوار الوطني، والانخراط في إنتاج نظرة سورية راهنة إلى المسألة الكردية وإلى سائر القضايا السورية.
استطاعت الثورة السورية أن تكون ملتقًى مهمًا للسوريين، واستطاعت أن تكون عامل نسيان لخصوصية كل منهم، وبات التركيز على بناء سورية الجديدة[13]، هذه الفكرة التي تعتبر مشروعًا يجمع بين العرب والأكراد وغيرهم، وأيضًا الديانات والطوائف السورية جميعها، وذلك من خلال تسهيل الحوار، وجعله ممكنًا للجميع، في سبيل التواصل إلى بناء وطن واحد وجامع والعيش في كنفه بسلام[14].
الخاتمة
إذا كان الحوار هو أعلى لغة في التعبير بين الشعوب؛ فإن التعايش الإنساني والثقافي هو النتاج الحضاري والقيمي للإنسان الواعي في طوره المتحضر. ولتحقيق الغاية المرجوة من العمل لا بد من اتباع خطوات تكون داعمة للروابط الاجتماعية والاقتصادية الموجودة، من:
- الحوار بين قادة الأحزاب الكردية والعربية في سورية وقادة المجتمعات المحلية من شيوخ عشائر ورجال الدين، وربط نتائج هذه الحوارات بقرارات ضمن إطار المؤسسات الوطنية.
- طرح جميع المواضيع ومناقشتها بوضوح وصراحة، مثل (الفدرالية، الدولة والهوية… الخ) للوصول إلى فهم مشترك لها، وهنا ضرورة إشراك المفكرين والمثقفين وأصحاب الاختصاص في صياغة مفاهيم تناسب الحالة الوطنية السورية ودعمها بنظريات وتجارب عملية.
- دعم منظمات المجتمع المدني الكردية والعربية في القيام بعملها التوعوي، لنشر النقاط السابقة على جميع المستويات، والتركيز على فئة الشباب والمرأة لدورهم والاعتماد عليهم في سورية المستقبل.
- الاستفادة من تجارب الحوار في البلدان التي لها حالات مماثلة من المشكلات، والاستعانة بخبراء ومختصين.
- الاستمرار في عملية الحوار والتواصل بشكل دوري.
لا نشك في أن السوريين سيشرعون في الحوار حول صورة سورية الجديدة، وطرح جميع القضايا السورية الحرجة، بروح بناءة وخلاقة لحلول من شأنها أن ترضي الجميع.
المصادر:
- بشارة، عزمي، “سورية درب الآلام نحو الحرية محاولة في التاريخ الراهن”، بيروت، المركز العربي لدراسة السياسات 2013
- Tejel, Jordi “Syria’s Kurds: history, politics and society”, London, Routledge 2009
- كتيب مؤتمر “العرب والكرد، المصالح والمخاوف والمشتركات”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 29 نيسان/ أبريل- 1 أيار/ مايو 2017، الدوحة.
- المركز السوري لبحوث السياسات “أثر النزاع في رأس المال الاجتماعي، التصدع الاجتماعي في سورية”، دمشق 2017
- عبد الأحد اصطيفو “ترميم المجتمع السوري” مركز حرمون للدراسات المعاصرة 24 آب/ أغسطس 2016 https://harmoon.org/archives/1900
- التحليل السياسي، “الهُوية السورية المبدّدة، هل في وسع السوريين استعادة هُويتهم الوطنية الجامعة؟” مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 23 حزيران/ يوليو 2016 https://harmoon.org/archives/1321
- مروان عبد الرزاق “الثورة السورية والمسألة الكردية”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 9 شباط/ فبراير 2017 https://harmoon.org/archives/3855
- Harriet Montgomery, “The Kurds of Syria, an existence denied, Europäisches”, Zentrum für Kurdische Studien, 2005. ISBN 3-938712-02-3 P7
- إبراهيم اليوسف ” الثورة السورية وآثارها على العلاقات الكردية العربية!” مركز حرمون للدراسات المعاصرة 2 أيلول/ سبتمبر 2016 https://harmoon.org/archives/2071
- يوسف سلامة “الجامعة السورية” مجلة قلمون العدد الثاني آب/ أغسطس 2017
[1] “أثر النزاع في رأس المال الاجتماعي، التصدع الاجتماعي في سورية”، المركز السوري لبحوث السياسات 2017
[2] بشارة، عزمي “سورية درب الآلام نحو الحرية محاولة في التاريخ الراهن”، بيروت، المركز العربي لدراسة السياسات ص 20- 28
[3] المصدر السابق، ص 12
[4] عبد الأحد اصطيفو “ترميم المجتمع السوري” مركز حرمون للدراسات المعاصرة 24 آب/ أغسطس 2016 https://harmoon.org/archives/1900
[5] ” أثر النزاع في رأس المال الاجتماعي، التصدع الاجتماعي في سورية ” مصدر سابق.
[6] “الهُوية السورية المبدّدة، هل في وسع السوريين استعادة هُويتهم الوطنية الجامعة؟” مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 23 حزيران/ يوليو 2016 https://harmoon.org/archives/1321
[7] المرجع السابق.
[8] مروان عبد الرزاق “الثورة السورية والمسألة الكردية”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 9 شباط/ فبراير 2017 https://harmoon.org/archives/3855
[9] كتيب مؤتمر “العرب والكرد، المصالح والمخاوف والمشتركات”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 29 نيسان/ أبريل- 1 أيار/ مايو 2017
[10] Harriet Montgomery, “The Kurds of Syria, an existence denied, Europäisches”, Zentrum für Kurdische Studien, 2005. ISBN 3-938712-02-3 P7
[11] كتيب مؤتمر “العرب والكرد، المصالح والمخاوف والمشتركات” مصدر سابق؟
[12] Tejel, Jordi “Syria’s Kurds: history, politics and society” Routledge 2009. P5
[13] إبراهيم اليوسف ” الثورة السورية وآثارها على العلاقات الكردية العربية!” مركز حرمون للدراسات المعاصرة 2 أيلول/ سبتمبر 2016 https://harmoon.org/archives/2071
[14] يوسف سلامة “الجامعة السورية” مجلة قلمون العدد الثاني آب/ أغسطس 2017 ص 23