اهتزت الأوساط السياسية والشعبية، في محافظة إدلب وعموم سورية، وفي المنفى السوري، لنبأ اغتيال الناشط السلمي رائد الفارس، ورفيقه المصور حمود جنيد، الجمعة 23 الشهر الحالي، على يدِ مجهولين في مدينة كفرنبل (غرب معرّة النعمان في محافظة إدلب) التي لا يزيد عدد سكانها عن ثلاثين ألفًا، وهي تخضع حاليًا لسيطرة (هيئة تحرير الشام/ النصرة سابقًا).
الشهيد رائد الفارس، عين الثورة السورية وصورتها إلى العالم، ابن مدينة كفرنبل، عرف بأنه “مهندس لافتات كفرنبل” التي جسدت بعباراتها واقع الثورة السورية ضدّ الاستبدادين السياسي والديني، وعكست جانبها الإنساني بسخرية سوداء، وخاطبت كلّ السوريين وتعدتهم لتخاطب العالم.
في الأول من شهر نيسان/ أبريل 2011 خرجت أول تظاهرة احتجاجية ضدّ نظام بشار الأسد، يومها خط شباب المدينة أول كتاباتهم على قبة جامعها الكبير، مطالبين بإسقاط النظام. ومنذ ذلك اليوم، يواجه أهالي المدينة قمعَ قوات النظام المدججة بالسلاح، بالفرشاة والألوان والسخرية، لتخط ردودًا بالرسوم الكاريكاتيرية واللافتات التي اشتهرت بظرفِها اللاذع.
- كفرنبل مدينة صنّاع سورية المستقبل الحر
يترجل فرسان كفرنبل، ولافتاتهم ورسومهم الساخرة لا تزال تسجل حضورها الخاص ضمن تعبيرات الثورة السورية، مستقطبة اهتمامًا متزايدًا داخل سورية المنتفضة وخارجها.
في هذه المدينة، مدينة الشهداء والأحرار: رائد الفارس، حمود جنيد، خالد العيسى، والناشط الحقوقي ياسر السليم، والناشط عبد الحميد البيوش، ورسام اللافتات أحمد جلل، وغيرهم من الشباب صنّاع سورية المستقبل الحر.. في هذه المدينة، كان لقيامة السوريين وقع آخر، حيث رفع الشهيد “رائد” ومعه شباب المدينة لافتات هزّت ضمائر من اطلع على مضامينها، وشكّلت عبر سنوات الثورة السورية السبع حالة شديدة الخصوصيّة في الخطاب الفكري -اللغوي البصري- لثورة الحرية والكرامة، ونضالها السلمي الذي لم يوقفه كلّ أزيز الرصاص، وانفجارات القذائف والقصف والبراميل المتتالية حتى اللحظة.
وقد أضحت لافتات كفرنبل ورسوماتها وأناشيد أهلها في التظاهرات علامة مسجلة؛ منذ بدايات الحراك الثوري في سورية حتى يومنا هذا، غير أن شهرة المدينة الثائرة جاءت من لافتاتها التي يصوغها الشباب بعبارات، كتبت باللغتين العربية والإنجليزية موشاة برسوم كاريكاتيرية، ويرفعها المتظاهرون في تظاهراتهم كلّ يوم جمعة، وهم لا يخاطبون من خلال مضامينها النظام الأسدي المجرم فحسب، بل العالم الذي كان لا بدّ له أن يعلم أنّ سورية للسوريين، وليست لعائلة مُعينة أو لطائفة دون الأخرى.
اغتيال رائد الفارس أمس يذكرنا بالبدايات، وبأشهر لافتة تقول: “يسقط النظام والمعارضة.. تسقط الأمة العربية والإسلامية.. يسقط مجلس الأمن.. يسقط العالم.. يسقط كلّ شيء”.
وبسبب الممارسات الإجرامية التي قامت بها قوات الأسد النظام، في الشهر العاشر عام 2011، ذيّلت اللافتة بـ (كفرنبل المحتلة)، فلاقت صدًى عالميًا واسعًا.
لعل أبرز ما ميز فنون شباب الثورة في كفرنبل هو اعتمادهم الأسلوب الساخر، في التعبير عن مجريات الأحداث الدامية التي يتعرّض لها أبناء الشعب السوري كلّ يوم، وعلى الرغم من كلّ الألم والجراح رسم الشهيد رائد الفارس ورفاقه ابتسامة على وجنات الكبار والصغار في مختلف المناطق السورية الجريحة، ابتسامة اجترحها هؤلاء من رحم معاناتهم اليومية.
المتابع لتسلسل اللافتات الزمني، في زمن المقتلة السورية الكبرى، يلاحظ تطورها الدلالي وقدرتها على التقاط تناقضات الحراك السياسي المحلي والعربي والدولي، وجرأتها على انتقاد المعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، وعدم ممالأتها لبعض القيادات والقوى التي أفرزتها الثورة.
مراقبون رأوا أنّ اللافتات لم تُغامر بالمعايير الشكليّة، رغم وضوح مضامينها المستمد بعضها من أفلام سينمائية ومسرحيات لشكسبير، كما أنها لم تفقد نقاءها على الرغم من احتواء بعضها على عبارات سوقية. كما رأوا أنها تشكّل -في أحد أوجهها- خيارًا سلميًا قادرًا على تأسيس فعل مقاوم يناوئ سلطة غاشمة ويهزم ادعاءاتها وفبركاتها الإعلامية، فهذه اللوحات التي تثبت في أسفلها التأريخ إلى جانب عبارة (كفرنبل المحتلة) تدحض أقاويل النظام السوري الذي دأب منذ البداية على القول إنه يحارب جماعات تكفيرية وإرهابية. مؤكّدين أنه مع مرور الأيام عرف شباب كفرنبل بمهاراتهم في مختلف فنون الثورة من أناشيد ولافتات تحمل عبارات تحكي تفاصيل ثورتهم النازفة، ولوحات إبداعية تجسد الواقع المؤلم والمرير، وتلخص الواقع السوري بكلّ سلبياته وتناقضاته، مبرزة قبح النظام، وتقصير مؤسسات الثورة، وسوءات قوى المعارضة السياسية والمسلحة، على حد سواء، بقصد تصحيح المسار وتصويب البوصلة نحو سورية الغد، سورية التي تشبهنا.
- روحٌ وثّابة أبدعت خطابًا نقديًا
استطاع الشهيد رائد الفارس وشباب كفرنبل الأحرار أن يختاروا اللغة الأكثر بلاغة والأكثر فاعلية، لغة الرسم والكلمة والصورة والصوت والموسيقى والنقد، في مزيج فريد أسّسوا به وأبدعوا خطابًا نقديًا كشف عن روحهم الوثّابة.
بعد محاولة اغتياله مطلع العام 2014 بأشهر، شارك “رائد” في المعرض الجوال للافتات ورسومات كفرنبل بأميركا الشمالية، الذي أقيم تحت شعار (حلم)، وكان أن زار يومها مدن شيكاغو بولاية إلينوي، وهيوستن بولاية تكساس، وأطلنطا بولاية جورجيا، ولوفيل بولاية كنتاكي، وسانتياغو بولاية كاليفورنيا، وإنديانابوليس بولاية إنديانا، إضافة إلى مدينتي تورنتو ومونتريال بكندا. وكان الهدف من هذا المعرض بيع اللافتات ضمن مزادات علنية يذهب ريعها لمساعدة أبناء كفرنبل.
في جولته الأميركية حمل “رائد” معه لافتة من لافتات كفرنبل التي كانت ترافقه أينما ذهب، يقدمها كهدايا لأصدقائه المناصرين للثورة السورية من غير السوريين. كانت اللافتة موجهة للرئيس باراك أوباما وتطالبه بالرحيل، إذا لم يستطع الإيفاء بقسمه بتحقيق العدالة، وقف “رائد” أمام البيت الأبيض ورفع اللافتة وسط ذهوله بوجود عشرات من عناصر الشرطة مخصّصة لحمايته في دولة بعيدة، بينما يواجه آلة القتل في وطنه لذات الفعل.
وفي مقابلة له مع فضائية (الغد العربي)، بمناسبة هذا المعرض، ظهر “رائد” بقميص جاء به من كفرنبل، قائلًا: إنه “يمثل شعب”، وتحدث عن العمل الإعلامي في الشمال السوري، مبينًا أنّ “الإعلامي والناشط الصحفي أصبح هدفًا، ويحمل على أكتافه الثورة السورية”.
الفنان التشكيلي والأكاديمي السوري د. حبيب الراعي، المقيم في السويد، يرى أن الأهمية البالغة للافتات كفرنبل تكمن في أنها قدمت خطابًا مغايرًا للسائد في الحراك السوري الذي تشرذم بعد انطلاقته السلمية الأولى، واضطر إلى حمل السلاح مدفوعًا لذلك بسبب تعنت النظام في اعتماد الحل الأمني والعسكري، واستحالة العمل السلمي في ظلّ عمليات القمع الممنهجة، أضف إلى ذلك انتشار الخطاب الديني التكفيري المسلح هو الآخر، كلّ تلك العوامل جعلت هذه اللافتات تشكّل علامة فارقة في العمل الثوري، مؤكّدة قوة الكلمة وفاعليتها، كما استطاعت بنفس الوقت أن تُسمِع صوتها في زمن القصف والعنف والرصاص والمدافع والطائرات والكيمياوي، خطابٌ وضع تلك الثورة في خضم الفعل الثوري التغييري، الذي لم يعد مجرد خطاب، إنما فعل حضور في “الآن” و الـ”هنا”، خطابٌ يسعى إلى الامتلاء بالفعل وبإرادة الحياة والحرية.
إنّ اللافتات التي كان لشهيد الكلمة والرأي والموقف رائد الفارس دورٌ بارزٌ في إنجازها، تشكّل بمجملها شريطًا متحركًا، يوثق محطات الثورة السورية العظيمة، اليتيمة، ومعاناة السوريين على مدى نيفٍ وسبع سنوات عجاف، إلى درجة يمكن معها أن نتصور ملخصًا مكثفًا لطبيعة تطور القضية السورية، وهي باقية في سجل الخلود السوري بقاء من أبدعها.
الشاعر السوري ياسر خنجر، ابن الجولان المحتل، نَعَى “رائد الفارس” و”حمود جنيد”، بعد ساعات من اغتيالهما، قائلًا: “لكما دفء تراب سوريا في هذا اليوم البارد.” وأضاف: “لقد كانت كفرنبل من أنقى أصوات الثورة، لافتاتها على صفحاتنا جميعًا.. يا لحزننا الممتد من أول الفقد إلى الضوء الذي عند نهايات الطريق”.