“في سورية، ثمة صحافة تعمل بأمان تحت جناح السلطة، وصحافة مستقلة نصف أفرادها قتلى، ونصفهم الآخر داخل السجون”.
عندما تنظر إلى الأمور باستقلالية ومهنية رفيعة؛ عليك أن تدافع عن هذه الحقيقة، وعندما تتغاضى عن سجل سيئ للحريات الصحفية، وانتهاكات كبيرة ضد رجال الإعلام تصل إلى حد القتل المتعمد، فهذا يعني -من الناحية الأخلاقية- أنك تصطف إلى جانب دكتاتور حوّل ربيع بلاده إلى شتاء عاصف دمّرت رياحه العاتية كل أنماط الحياة، وأنك تتنكر لقيم مهنتك، قبل أن تتنكر لدماء زملائك الذين سقطوا وهم يؤدون واجبهم برصاص نظام متوحش.
في عمق الصدمة، لا يقتصر الأمر على سورية التي قَبِل اتحاد الصحفيين العرب دعوة نظامها، وعَقَد اجتماع أمانته العامة في دمشق يومي 25 و26 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، وأشاد رئيسه مؤيد اللامي، بـ “التفاف الشعب السوري” -نصفه لاجئ ومهجّر- “حول قيادة الأسد الحكيمة لتحقيق النصر وإفشال المؤامرة التي يتعرض لها”، فقد سبق للاتحاد أن أهدى درع يوبيله الذهبي 2014، لرئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب، وشَكر الرئيس السيسي الذي انقلب على الديمقراطية، على حُسن استقباله ونظرته الإيجابية إلى المستقبل. في وقت لم تجد منظمة (مراسلون بلا حدود) ما تصف به الأخير، غير عبارة “رئيس يحكم سيطرته على سدة الحكم بقبضة من حديد، ويضرب بالقوانين عرض الحائط، ويضيق الخناق على الفضاء العام، ويحاول بكل وقاحة الإجهاز على التعددية الإعلامية، وتوجيه سياطه نحو نقابة الصحفيين”.
إن الإحساس الغامر برهاب الاحتجاز أو الإخفاء القسري أو القتل المُدبّر، وهو الأمر الذي لم يشعر به فريق اللامي عند هبوط طائرتهم في دمشق لمحاباة اتحادهم قصر المهاجرين، أرغم صحفيين آخرين مستقلين على أن يعيدوا النظر بأنشطتهم، كما فعلت جانين دي جيوفاني، محررة قسم الشرق الأوسط في مجلة (نيوزويك) الأميركية، التي خاضت تجربة إعلامية خطرة استغرق تنفيذها سبعة أيام، توصلت في نهايتها إلى القول: إن “الحرب السورية غيّرت نظرتنا إلى التغطية الصحفية تغييرًا كبيرًا. وولت أيام إرسال الصحفيين كالفرسان إلى ساحة المعركة. علينا أن نفكر قبل المهمات وأثناء القيام بها وبعد الفراغ منها”.
لا يختلف موقف الاتحاد العام للصحفيين العرب، عمومًا، عن منظمات أخرى، رأت في الأسد دكتاتورًا مصلحًا. فقد ربط الاتحاد رسالته المستقلة النبيلة، وطروحاته المهنية، بمنطق السياسة. ولطالما استخدمت الأنظمة العربية المستبدة المنطق المتحول ذاته، عندما قلبت الوقائع، وعاقبت الذين رفعوا أصواتهم للدفاع عن الحقيقة والحريات العامة بذرائع ونصوص مختلفة.
يقع الخطاب الانتقائي على الدوام بتناقضات واضحة، تقوض الثقة، وتدفع أي مؤسسة إلى هوامش التاريخ، ففي مناسبة سابقة، أكد رئيس الاتحاد أن العمل الصحفي في البلدان العربية ازداد سوءًا، بعد الربيع العربي، إذ اعتُقل العديد من الصحفيين، ورفعت دعاوى قضائية على آخرين. وقدّم الجزائر كنموذج، حيث رأى أنها تعيش “كارثة حقيقية، في غياب منظمات قانونية تدافع عن الصحفيين، مع احتكار حكومي لكل المؤسسات الإعلامية”.
حسنًا، إذا كان مجرد غياب المنظمات القانونية واحتكار السلطة للإعلام، يمثل بالنسبة إلى الاتحاد كارثة، فماذا يمثل النظام الذي قتلت صواريخه وآلته الحربية، عمدًا، مئات الصحفيين؟
من بين 700 ألف ملف يتعلق بجرائم الحرب المرتكبة في سورية، جمعتها لجنة العدالة والمساءلة الدولية، هناك 200 ملف لدعاوى دولية رُفعت ضد نظام الأسد، تحتوي على أدلة قوية، ومنها تسجيلات صوتية، تعزز فرضية استهداف قواته المتعمد للصحفيين، والمراسلين الأجانب، والمدنيين الذين يساعدون الصحفيين في أداء عملهم.
يقول سكوت غيلمور، محامي عائلة ماري كولفين، مراسلة (CNN) التي اغتالتها قوات الأسد في مدينة حمص: “تسمح لنا هذه الوثائق بإعادة بناء نموذج التخطيط السياسي الأوسع، الذي حدد العاملين في الإعلام كأهداف منذ وقت مبكر جدًا من الحرب السورية”، ويضيف: “إضافة إلى أنها تحدد هيكل القيادة والرقابة، وتكشف أمورًا لا يعرفها حتى الخبراء في الشأن السوري”.
تُظهر إحدى الوثائق بحسب مجلة (نيوزويك) الأميركية، كيف تجسست القوات العسكرية والأمنية على اتصالات الصحفيين والنشطاء. وقيام ضباط مخابرات بنقل معلومات عن أحد صحفيي قناة (الجزيرة) إلى وحدة قوات خاصة عسكرية، لاتخاذ “الإجراءات اللازمة” بحقه.
ينتقد اللامي، في تصريح لـ (RT Arabic) استهداف الصحفيين في بلده العراق: “كانت نسبة الموت عالية، ونسبة التضييق على الشخصيات الإعلامية كبيرة أيضًا، لهذا نجد أن عدد الشهداء من الصحفيين قد وصل إلى 295 شهيدًا، وهذا رقم كبير لم تعرفه حرب فيتنام والحروب الأخرى في أي بلد، ولم يسقط مثل هذا العدد من الضحايا في أي مكان آخر”، لكنه يتجاهل لاحقًا الخسائر الكبيرة التي لحقت بالجسم الصحفي السوري على يد قوات الأسد، وقوائم الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي بلغت حصيلتها، منذ بداية الحرب في 2011، نحو 689 صحفيًا، كما يتناسى تأكيد الشبكة: “إننا نفقد عاملًا في الإعلام كل خمسة أيام. وبحسب قاعدة بياناتنا، ما يزال ما لا يقل عن 418 من الصحفيين والعاملين في الحقل الإعلامي، مفقودين، أو مختفين قسرًا”، فيما أعلن المركز السوري للحريات الصحفية أنه وثّق في السياق ذاته مقتل 29 إعلاميًا تحت التعذيب داخل السجون، لاقوا صنوفًا مختلفة من التعذيب والتنكيل والمعاملة المهينة القاسية.
في لقطة مختارة، خصص نظام الأسد “فندق الشام” مكانًا، لاستمتاع الأمانة العامة للصحفيين العرب بالتاريخ، لقربه من المدينة القديمة وإشرافه على المناطق التي دمرتها القوات الحكومية. فحضر الترويج الإعلامي لإنجازات رئيسٍ يصفه العالم بالدكتاتور السفاح، وغاب الحديث عن نظام يتربع في المرتبة 177/ 180 على مؤشر الحريات الصحفية.