هموم ثقافية

الفعل الصامد وأهوال الحرب

إذا كانت الصورة قد احتلت فضاءً كبيرًا في عصرنا الحالي، فإن لها وظيفة محورية: “إنها تكشف عالمًا” كما يقول ميكال دوفران، في فنومنولوجيا التجربة الاستطيقية. لكن هذا العالم قد يكون بهيجًا وممتعًا، وقد يكون هجينًا وقاسيًا. وإذا كان الإبداع الفني هو الطاقة العقلية الهائلة التي يتمتع بها الفرد؛ فإن أساسها اجتماعي إنساني. إذن، للإبداع الفني أهمية خاصة؛ إذ هو يكشف عن قضايا ويُعري حقائق واقعية. وإن تشبث بالواقعي، فهو كُنه للإنساني وللصدق وللمجال الحيوي للفكرة الفعالة والمتجددة عبر العصور، في هذا العالَم الذي يُفرز وضعيات اجتماعية مختلفة ومتنوعة. فأين يكمُن وجه الإبداع في هذه الصورة الفوتوغرافية؟ وما الذي تحمله من قضايا إنسانية؟

لقد أبدع المصور الصحفي والإعلامي اللبناني جوزيف آيد Joseph Eid في تصوير هذه الصورة الفوتوغرافية الموسومة بـ (أهوال الحرب)، بتاريخ 15 آذار/ مارس 2018 بحلب. بعد أن عُرضت على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى شبكة الإنترانت، وفي أغلب القنوات التلفزيونية. بل لعل معنى هذه الصورة الفوتوغرافية قد برز، بمجرد عرضها وبثها إعلاميًا. وهذا ما يُفيد أولًا، قوة الصورة كإنجاز إنساني وإبداعي، وثانيًا، كقوة تأثيرية. وبالتالي، لا يكون لهذا التأثير قيمته، إلا إذا ما انبعث من رحم الواقع. فذلك مما تفرضه أخلاقيات الإبداع وإيتيقا الصورة. زيادة عن بعدها المقصدي كذلك في كيفية تشخيص الحدث. وجدير لفهم هذه المقصدية، أن نتوقف عند أبعاد الصورة التشكيلية؛ حيث هي عبارة عن مستطيل أفقي، بمساحة تتحدد بـ (17×12) سم، والسعي نحو تفهم أبعادها الفكرية والرمزية في واقعها الاجتماعي والسياسي.

تُعتبر (أهوال الحرب) حدثًا اجتماعيًا، لأنها رسمت واقعًا متأزمًا، ووقفت عند الوضع في سورية. ذلك أن الصورة -وإن كانت تتشكل من بُنية ثابتة في شكلها الظاهري- حركت قضايا إنسانية وأولت قراءات كثيرة. وبعد، فالصورة انبثقت من واقع زماني حي، فكانت رهينة حاضر واقعي وداخل نسق زمن من الأحداث المؤلمة في سورية. لقد انغرست هذه الصورة في وضعية تشخيصية حية. لذلك اعتبرناها حدثًا مرتبطًا بوضعية خاصة يعيشها الفرد في سورية: إذ أُخذت هذه الصورة، كوصف لأحداث القصف والدمار في مدينة حلب السورية. كما تُحيلنا إلى فضاء خاص: غرفة الرجل المسن. لذلك، فإن قراءتها تتطلب منا تقصي عدة مشاهد تعبيرية، وهذا ما تفرضه طبيعة القراءة ذاتها: أولها، مشهد أنقاض البيت الحلبي، ثانيها، مشهد الرجل المسن الجالس على سريره، وهو بصدد تدخين سيجارة، ثالثها، مشهد الآلة الموسيقية القديمة، ورابعها، مشهد القصف ونتائجه على البيت: الجدار المحطم والنوافذ المهشمة.

ولما كانت الرسالة قائمة على مبدأ تجسيد الواقع وتشخيصه في مدينة حلب، من جراء عمليات القصف، فإن خطاب الصورة تأسس على قول الحقيقة برمتها، بدليل وجود الآلة الموسيقية القديمة والعلاقة الرابطة بها. لقد رفض هذا الرجل الصامد في وجه التجبر، الخروج من بيته رغم القصف والتهشيم، وهذا ما يبدو واضحًا من خلال المشهد. بل يُبشر هذا الموقف الخاص بالقوة والديمومة: عدم الاستسلام والتشبث بالتاريخ الخاص والمكان الحميمي. وقد تبدو اللامبالاة الميزة الرئيسية في هذا المشهد، لأن آثار القصف لم تعد تشوش ذهنه ولا كينونته. ورغم هول القصف، فالرجل الحديدي ما زال يُفكر ويتأمل الوضع، والآلة الموسيقية ما زالت تعمل. نستشف من الصورة أن الرجل يمتلك من القوة ما يستطيع تجاوز أي وضع مأسوي وحالة مدمرة. له من الإرادة ما تزيد في شحذه واستمراره من أجل الديمومة ولغاية إحياء الحياة من جديد، رغم انتشار الخراب في جميع الأرجاء والمباني المجاورة. فهل توقع هذا الرجل الحديدي ما يحدث له؟ هل كان في الحسبان هذا الدمار؟ ولماذا لم يُشوش هذا القصف ارتباطه الحميمي بالبيت وعلاقته بالأشياء الخاصة؟

من الحكمة أن نُحيي هذا الموقف البُطولي الذي ما زال يرى أن الحياة جديرة بأن تُعاش. لم يكن موقفه استسلامًا ولا رُضوخًا؛ بل كان قوة ودفاعًا لغاية التشييد والبناء، وهذا يتطلب مخاطرة. يُصبح الهدم هينًا أمام الصمود، بل أجمل ما صنعه هذا الرجل السوري أنه تمسك بالتفكير في غد أفضل وفي وطنه العزيز.

لا يكون لهذه المشاهد من قيمة تُذكر، إلا إذا ما توقفنا على دلالة الرسالة التي تُريد صورة (أهوال الحرب) تبليغها فتُسهم في تفعيل خطاب خالد. ولعل من مظاهر فعالية هذا الخطاب الذي تحمله هذه الصورة، هو ما نتفحصه فيها ونُثمنه إبداعيًا للصحفي والمصور الفوتوغرافي، جوزيف آيد، لأننا عند تقسيمنا الصورة بخط عمودي واحد، فإننا نتحصل على مشهدين متناقضين تمامًا: الجانب الأيسر الخاص بمشهد الرجل الحديدي وموقفه الآمل والمتأمل. والجانب الأيمن، الذي جمع كل بقايا الدمار والأنقاض. ولعل في إدراك المصور الفوتوغرافي لأهمية قيمة اللون الباهت وانسجامه وترابطه مع الوضع في سورية التي أضحت خرابًا، بعد أن دُمرت الديار وهُجر شعبها وقُتل؛ ما زاد في توضيح القراءة السيميولوجية للصورة الفوتوغرافية.

وأرانا هنا، نُركز على المجال البلاغي والرمزي في مشهدية الصورة، التي تتألف من العلامة البصرية التشكيلية، الممثلة في الرجل المسن (70 سنة تقريبًا)، المُعوض برمزية العراقة العظمى لتاريخ سورية. وموقف الرجل هو انفتاح على ممكنات ثرية من الرموز، وها هو يتشكل كمحور رئيس في خطابنا هذا. فالتفاعل عندنا مع هذه الصورة حقيقة واقعية مؤلمة، رغم تميز الرجل السوري بحس فني جمالي، مرهف الإحساس. إضافة إلى قيمة الآلة الموسيقية التي انتفت عنها بقايا الدمار كلها، وهي ممكنة من ممكنات التأويل السيميولوجي التي ترمز إلى الصمود، لأنها بصدد الاشتغال رغم عملية القصف.

وبعد كل هذا، فالبيت بمعالمه يُربكنا أكثر، لأنه يُقدم لنا صورة عن الجمال والحس الفني للرجل السوري في حلب. وبالتالي، فإن استنباط هذا البعد الفني المرهف ومحاولة تشخيص هذه المعالم الجميلة تُقابلها هجانة الدمار ووحشية الحرب… وكل ذلك يزيد وجع الإنسان.

لذلك فإن دور الفنان الفوتوغرافي جوزيف، هو الارتقاء بإبداعه الفني حتى يكون خطابًا فعالًا في المتقبل فيساهم في نهضة القيم الجمالية والفكرية والنقدية… فالإبداع الفني في (أهوال الحرب) هو التراث الروحي الخالد، وهو الشرط الأساسي للتوعية وهو ما يُعزز الروح الوطنية، لأن الغرض هو أن نتبصر هذا الفعل الصامد والوعي بقيمة الوطن/ الأم؛ بل، إن الشأن هنا، يكمن في محاولة رسم معالم الواقع البائس الذي يعيشه الإنسان في سورية، والرفع من قيمة الفن إلى مرتبة الفن الوظيفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق