أدب وفنون

شريطٌ ملونٌ ملفوف على قنبلة

أضاؤوا لها الشموع ومجدوا فنّها الحيّ، كما لو كانت قدّيسة، ولم ينسوا أن يصنعوا طابعًا يحمل صورتها، وفوق الملابس والولاعات وأوراق التقويم طبعوا نظرتها التي غدَت عالمية، ولجأ بعض المختصين في علم النفس إلى استخدام لوحاتها في جلسات علاجية لنسوة يعانين الاكتئاب، من أجل تحفيزهن على التحدث عن معاناتهن، علاج أظنه سرياليًا -المعاناة تشفي المعاناة- هي التي لطالما لم تجد في السريالية ضالتها.

غطّت صورها أغلفة أهم مجلات الموضة العالمية، بدايتها كانت مع مجلة vouge، وهي جالسة فوق كرسي بزيها المكسيكي الرنان، الصورة جاءت بتوقيع صديقها وحبيبها لسنوات طويلة المصور العالمي المجري الأصل نيكولاس موراي.

ألهمت فريدا كاهلو (1907-1954) بأزيائها التيهوانية، صناع الموضة من إيف سان لوران وجيفنشي إلى دولتشي آند غابانا، بتنانيرها الطويلة والمزركشة بألوان دمجتها فريدا بشكل خاص كما في لوحاتها، كُتبت عنها وعن حياتها الدرامية مئات السير، أحبت السينما تلك الدراما الفريدة، وتلهفت لعرضها على خشبة المسرح.

قبائل الأزتيك والمايا والأغاني الشعبية في روح المكسيك جابت مع فريدا العالم، قلدتها النساء وصار زيها هويّة بصريّةً لا تخطئ جذرها، شغفُ حبّ الملابس كشغف الرسم، كلاهما نشأ وسط أنينِ ساق ميتة وعلاقةٍ زوجيّة مهشمة. وظلت كاهلو، حتى آخر يوم في حياتها، تستقبل الزوار والأصدقاء والأقرباء على سريرها ذي المظلة، تعتني بأقراطها الطويلة وتحرص على تزيين شعرها بالشرائط الملونة، الشعر الطويل المحبب أيضًا كتقليد مكسيكيّ، في صورة فوتوغرافية وعند بتر ساقها اليمنى تظهر راقدةً في المستشفى كآلهة من الأزتيك.

مذ كانت في السادسة من عمرها، عندما تم تشخيص إصابتها بشلل الأطفال، وبعض من الالتهابات في النقي والعظم والعمود الفقري، مرورًا بحادث الحافلة الشهير الذي تعرضت له مع أكثر من 33 عملية، قاومت فريدا العاشقة للحياة آلامها بثيابها الدمغة، ورسم الأغوار العميقة. نزفت فريدا في أغلب لوحاتها، وغطت قلبها المدمى في الخارج بأزياء التيهوانا.

يقول هايدن هيريرا كاتب سيرة حياة كاهلو: “كلما زاد ألمها الناجم عن دييغو، أصبحت الصور الشخصية لفريدا أكثر دموية”

حب النكات اللاذعة والسجائر والكحول والشتائم والأغاني الشعبية لـ “كويوكان” المنطقة التي نشأت فيها، أشياء حقيقية لامرأة تحب الحياة ويسكنها الشغف في انتقاء ثيابها وشكل تسريحة شعرها ولون أحمر شفاهها، استبدلت حلْق شعر إبطها وشاربيها بضفر جدائلها بالزهور الملونة، كانت تتمسك بتفاصيلها علّها تنسى أنها لن تصيرا أمًّا، وأن هذا الألم سيبقى صديقها فوق سريرها ذي المظلة، طيلة حياتها، ورغبة منها في أن تحلّق بعيدًا عن حبها الأول والأخير دييغو ريفييرا صاحب الجداريات والقضايا الكبرى. أظن أن ما كتبته يومًا ما في مذكراتها تلخص كل عذاباتها مع ريفييرا: “كان هناك حادثان في حياتي: العربة ودييغو، وكان دييغو هو الأسوأ”

تناقضات صغيرة كانت تتفجر وتشق طريقًا واحدًا، حين تمسك فريدا ريشتها وترسم براكين أعماقها الملأى بالأشواك.

اختلاف بين الجذر تحت التراب والأغصان المتدلية في الهواء، الأنوثة المطعمة بنفسها حتى الموت.

في البيت الأزرق، بيت عائلتها كما كانت تسميه، الذي أمضت فيه أيامها الأخيرة، وحيدةً طريحة ذاتها، تابعت فريدا نقل المكسيك في روحها إلى العالم. حتى بعد موتها ظنّ الناس أن ثيابها التي غدت تحفة وطنية، تصبح ثقيلةً في الظلام، لأن روحها تأتي وترتديها.

في تجوالها الأميركي وفي نيويورك، كانت نجمةً ملونة ساحرة غريبة بقلاداتها المصنوعة من اليشم، نظر العالم إلى الفنانة واللوحة معًا.

لكن ما الذي أثار هذه الفوضى حول فريدا كاهلو؟ أهو ساقها الميتة منذ طفولتها، التي جعلتها بعد سنين طويلة تبتكر زينة لها وتلبسها تنانير لتشكل علامةً فارقة في حياتها؟ أم هو أسطورة زواجها من فنان الشعب، كما كان يلقب “دييغو ريفييرا”، وعذابها الطويل معه كامرأة لديها كبرياء يريد أن يحب ويتملك ويغار. أم حاجباها المتصلان ونظرتها العدمية، في ذاك الأرشيف الهائل من الصور الفوتوغرافية التي رافقت حياتها، منذ أن كانت صغيرة، بفضل أبيها المصور أولًا، ليليه أهم المصورين العالميين في ذاك الوقت، الذين عشقوا تصوير فريدا، من نيكولاس موراي وتينا مودوتي ونورمان روكويل، وصولًا إلى العظيم مانويل ألفاريز برافو وزوجته دولوريس.. أرشيف ربما كان أقرب إليَّ كسيرة ذاتية عن فريدا.

أحبّتها السريالية، ووصفها بريتون بأنها “شريط ملون ملفوف على قنبلة”، سافرت إلى باريس وعرضت لوحاتها وزيّها، ترددت في قربها من المجتمع الفرنسي ومدارسه الفنية، لكنها استطاعت في النهاية أن تصرخ ملء صوتها: لست فقط زوجة رسام مشهور وأملك ساقًا ميتة، كتبت فيما بعد في مذكراتها “لقد اعتقدوا بأنني سريالية، لكنني لم أكن كذلك، لم أرسم أحلامًا قط، لقد رسمت واقعي الخاص”.

لم تظهر المكسيك فقط في زي فريدا الخاطف؛ بل أحاطت حتى برسومها، تلك التي صورت فيها الجماد، صحون السيراميك، فاكهة البيتايا أشهر فواكه بلدها، والذرة التي لا يخطئ أحد منبتها.

كي تكون ذاتها وفنانة لها، تجذب صمت الآخرين وتأملهم عند تجربتها، قلدت فريدا ثياب قبائل لم يطمرها التاريخ، كانت ملمةً بالأزياء والصور الفوتوغرافية لتصنع مظهرها بعناية، ولتذهب إلى الموت -فيما بعد- وكلها ثقة بأن قلبها المدمى على الأرض سيعيش كبطل قومي.

كثرة الالتصاق هي النزوع إلى الغياب إلى الهرب من ثقل الألم، الابتكار وحب الأنا والكبرياء، جاءت الثياب- التراث كقارب إنقاذ تتنفس الرسامة معه جسدها براحة، بعيدًا عن خيوط الجراحة، وبعيدًا أيضًا عن حبيبها وغرامياته المتعددة التي كانت إحداها كريستينا أختها. بين حافتين عاشت فريدا حياتها، أن أكون زوجة وحبيبة وأرسم، أو أن أموت وأنا أرسم، وفي الحالتين تمتعت وحيدةً بأنوثتها، ورسمت وجهها ومرآتها وقردها فولانغ تشانغ.

ما أحبه في هذه المرأة كيف شكلت شخصيتها المرئية خارج اللوحات، بذكاء وفن يضاهي فنها فوق الورق، ألوانٌ وضفائر وحليّ، نظرة مختلفة إلى العالم، ربما كانت الساق الأقصر والأكثر هشاشة من الساق الأخرى هي من صنعَ هذا الميل، ولربما كانت نزعتها إلى الحضور والظهور كامرأة فتية عاشقة. أيًّا كانت الطريق التي نسجت “الظاهرة” فريدا؛ فاليوم الرحلة إلى المكسيك تعني الطريق إلى البيت الأزرق، إلى عالم فريدا كاهلو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق