عادت “إسرائيل”، بعد شهرين تقريبًا، من حادثة سقوط الطائرة الروسية (إليوشين 20) في الساحل السوري، لتشن هجمات جوية وصاروخية واسعة على مواقع القوات الإيرانية، وميليشياتها، في محيط دمشق وفي الجولان ومحافظة درعا، وهي بذلك بددت كل الرهانات -الأوهام- التي أسسها “الممانعون المقاومون” على صواريخ (إس 300) الروسية، التي أعلنت موسكو تسليمها لجيش سلطة بشار الأسد.
لقد قامت جوقات المطبّلين والمزمّرين لحلف “الممانعة والمقاومة”، بعد إعلان موسكو وصول تلك الصواريخ إلى قوات سلطة بشار الأسد، بضخ الاطمئنان، عبر مقولات عن تغيير موازين القوى بعد إرسال تلك الصواريخ (إس 300)، وصولًا إلى القول: إن “قواعد الاشتباك قد تغيّرت”. أي أن “إسرائيل” لم تعد قادرة على العمل بحرية فوق الأراضي السورية. ولتدعيم تلك التقديرات، راح محللو الممانعة والمقاومة يضخون المعلومات التقنية عن هذه الصواريخ (مداها، وقدرتها على الاشتباك مع عشرات الأهداف بذات اللحظة، ونسبة نجاحها في تدمير الأهداف.. إلى ما هنالك).
بيد أن هؤلاء المحللين تجاهلوا، أو أنهم يجهلون، قدرة “إسرائيل” على تحييد تلك الصواريخ، إذا استُخدمت ضد طائراتها أو صواريخها، وهي تمتلك منظومة من الأسلحة المتطورة والرادارات وأجهزة التعطيل والتعمية، ما يمكّنها من تحييد فعالية (إس 300)، وغيره من الصواريخ الروسية المتطورة. أما العامل الأهم في هذا المجال، فيقوم على فهم خاطئ وقاصر لطبيعة العلاقة بين موسكو وتل أبيب، مقارنة مع علاقتها مع طهران. ومن هذه الخلفية القاصرة، ظنّ ملالي طهران وجوقتهم الاستراتيجية أن السجال الإعلامي والدبلوماسي بين موسكو وتل أبيب، إثر سقوط الطائرة الروسية (إليوشين 20) على الساحل السوري، الذي أعقبه إعلان روسيا عن صفقة (إس 300) لقوات بشار، سيوفر فرصة لتعزيز دور إيران في سورية، وتجنيب تلك القوات وميليشياتها خطر الاستهداف الإسرائيلي. ومنه أعادوا تسيير قوافلهم العسكرية وطائرات الشحن للسلاح نحو الأراضي السورية. وكان القصف الإسرائيلي لتلك الشحنات وللمواقع الإيرانية في غير مكان (30 تشرين الثاني) يقول للإيرانيين كلامًا آخر، يناقض تقديراتهم وتمنياتهم ومفاهيمهم للتحالفات والتناقضات في الصراع داخل سورية وعليها.
أول هذا الكلام وأهمّه أن “إسرائيل” لن تسمح لطهران “باللعب” معها عسكريًا فوق الأراضي السورية، وأقول اللعب، لأن الاستراتيجيين في تل أبيب يعلمون تمامًا أن “أبواق الحرب المقدسة” التي يصرخ بها الملالي ضد “إسرائيل”، هي مجرد بروباغندا، موجهة إلى الداخل الإيراني والعربي، للاستحواذ على القبول الشعبي بزعامتها وبمشاريع ولاية الفقيه في المنطقة، كما أنها “أفضل وصفة” لقمع وسحق المناوئين لسياستها داخل إيران وخارجها، فلطالما كانت الدعاية عن الصراع مع “إسرائيل” كأولوية، تعلو على كافة القضايا، ركيزة للاستبداد والقمع. والأكيد أن قادة “إسرائيل” لا يعنيهم، ولا يضيرهم، بقاء الاستبداد وتصاعد القمع ضد الديمقراطية وحريات الشعوب في المنطقة، شرط أن لا يتم ذلك عبر محاولات “اللعب بالسلاح”، لإظهار جديتهم في الصراع مع “إسرائيل”.
الكلام الثاني، وإن لم تفصح عنه الزعامة الإسرائيلية، يتعلق بالدور الإيراني في سورية، ويمكن بقليل من التحليل، الوقوف على أن “إسرائيل” ليست معنية بمواجهة الدور الإيراني داخل سورية، طالما أنه يسعى، عبر أدواته وأيديولوجيته، لإعادة ترتيب البنية الاجتماعية والمذهبية داخل المجتمع السوري، بما يكفل هيمنة طهران على الفضاء المذهبي، عبر التشييع والتوطين للعائلات القادمة إلى سورية، برعاية الوجود العسكري والأمني الإيرانيين. وفي حقيقة الأمر إن هذا الشكل من الحضور الإيراني في سورية مريح لـ “إسرائيل”، فما يترتب عليه من إنهاك للمجتمع السوري، ومحاولة إعادة تشكيله ديموغرافيًا، والصورة التي يعلنها هذا الحضور أمام العالم، يشكل تدعيمًا للادعاء الإسرائيلي بأن “إسرائيل دولة ديمقراطية”، مع أنها “دولة يهودية” أيضًا، ويوفر المشروع الإيراني (الجمهورية الإسلامية) المزمعة، تدعيمًا لحق “إسرائيل” في تعريف نفسها كـ “دولة يهودية”. وبصرف النظر عن وهم بناء جمهورية إسلامية، فإن إعلان السعي لها يصب الماء على طواحين غلاة الصهاينة في المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة.
لم تكن “إسرائيل” تعترض على محاولات إيران الملالي تغيير التوازنات المذهبية والطائفية في سورية لمصلحة مشروعها، وهي قديمة، سبقت ثورة الحرية في سورية 2011، أما عندما أخذت طهران باللعب على “جعجعة السلاح” والتوغل بقواتها وميليشياتها في سورية، لم تسمح القيادة الإسرائيلية بهذه اللعبة، وشرعت بتدمير القوات الإيرانية الزائدة عن الحاجة، لتقديم الدعم المطلوب لسلطة الأسد في تصديه الدموي لسحق ثورة الشعب السوري. فلم تهتم “إسرائيل” لما قامت به إيران وأدواتها الطائفية في القصير ووادي بردى والزبداني ثمّ في حلب وريف دمشق وإدلب، وما حركت ساكنًا، لأن قمع الثورة السورية لا يهدد أمنها، بل على العكس هو يخدم تثبيت سلطة قدّمت كل ما يلزم لأمن “إسرائيل”.
الكلام الآخر، وليس الأخير، الذي قالته “إسرائيل” لملالي طهران، في غاراتها على الكسوة ودرعا والجولان آخر تشرين الثاني 2018، هو أن التعارض والتباين بين موسكو وتل أبيب، في سورية، إن حصل، وعندما يحصل، لن يؤثر في أولوية التفاهم والتنسيق الروسي الإسرائيلي، ولن يكون فرصة تستثمرها طهران للمضي في اللعب على الساحة السورية، بالمستوى الذي “يزعج إسرائيل”. ومنذ اللحظة الأولى لاتخاذ موسكو قرارها بالعمل العسكري في سورية، كان المرور من بوابة “أمن إسرائيل”، والتنسيق معها، وضمان حقها في القيام بعملياتها في سماء سورية، حين ترى “إسرائيل” ضرورة لتنفيذ ما يحمي أمنها، ويجنبها كل احتمال للأخطار ولو المحدودة.
هل سيفهم نظام الملالي الدروس، من تجربتهم في اللعب مع “إسرائيل” من الأراضي السورية؟ أم أنهم لا يريدون تعلّم الدروس؟ خاصة أن التيار المتشدد بزعامة المرشد، وبقيادة الحرس الثوري وفيلق القدس، سيفقدون ورقتهم الأهم في السيطرة على ثروات إيران وميزانيات البلد، إذا أوقفوا تبجحاتهم عن القدس وفلسطين، وستتخلخل قدرتهم على قمع الشارع والمعارضين.
مفاد الأمر أنهم لا يريدون تعلُّم الدرس، وسيوغلون باللعب بورقة الحرب ضد “إسرائيل”، فهو ركيزة سيطرتهم على السلطة.