إن اتهام الثورة السورية بتفكيك المجتمع السوري هو اتهام باطل؛ فالثورة قد أتت كاشفة لحقيقة بنية المجتمع السوري، أو على نحو أدق بنية المجتمعات السورية، وهذا ما جعل روسيا تطرح يومًا مشروع “الشعوب السورية”، محاولة تسجيل هدف من الزاوية القاتلة.
مناسبة الحديث في هذه النقطة هي السجال المتجدد بين أطياف واسعة من السوريين، على وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولة البعض أن يحطّ من قدر البعض الآخر، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وذلك من خلال مصطلحات الريف والمدينة، والسرايا والبدو، والساحل والداخل، ومحاولة البعض حتى التنكر من عروبته باحثًا عن جذور آشورية وفينيقية وآرامية وغير ذلك، بما يشبه إعادة قراءة التاريخ من زوايا فئوية ضيقة. والطامة الكبرى أن بعض هؤلاء محسوبون على الشريحة المثقفة في المجتمع أولًا، وعلى الثورة من جانب آخر، والغريب أن يُغادر هؤلاء مقاعد الثورة، ويتحدثوا في نقاشات وأحاديث لا تؤدي إلا إلى شرذمة المشرذم أصلًا، ومن غير المفهوم كيف يمكن أن يحمل شخصٌ فكرًا ثوريًا ومناطقيًا، في ذات الوقت؟!
الثورة، منذ أيامها الأولى، كشفت أن كل قرية سورية منقسمة إلى حي شرقي وآخر غربي، أو حي شمالي وآخر جنوبي، كما كشفت عن زيف الحياة السياسية في البلاد منذ فجر الاستقلال، فسرعان ما غادر الجميع أحزابهم السياسية عائدين إلى أصولهم المناطقية والطائفية والعشائرية، بما في ذلك المنتمين إلى حزب البعث الذي أتى أصلًا لمكافحة كل ما سبق، فكان في شعاراته وأدبياته ضد العشائرية، واعتبر أن جميع السوريين ينتمون إلى “عشيرة” البعث، ونصّب نفسه قائدًا للدولة والمجتمع.
في حقيقة المسألة أن هذه السجالات سببها عدم وجود هوية وطنية جامعة لكل السوريين، هوية متوافق عليها وليست مفروضة فرضًا على أحد، وعدم وجود تلك الهوية مردّه أن الحزب الحاكم لأطول مدة بعد الاستقلال كان على الدوام يُطلق الشعارات، ويعمل ضدّها تمامًا، فهو أكثر من كرّس المناطقية والطائفية، وذلك باعتماده على (كوتات) غير مُعلنة، والجامع بين أصحاب الحظ في هذه (الكوتات) هو الولاء للسلطة وليس للدولة، في الوقت الذي كانت فيه السلطة فوق الدولة والشعب، وبرعت أجهزة النظام في تكريس المناطقية، من خلال اختيار كبار موظفي الدولة بناءً على انتمائهم الديني والمناطقي، وليس على أساس الكفاءة، كما أن أجهزة الدولة الأمنية كانت بارعة في صناعة النكتة والمصطلحات على بعض المناطق، وذلك للتقليل من شأنها وإفقادها الاحترام.
في الوقت الذي يجب أن يجتمع فيه السوريون لتحقيق هدفهم المشترك، بالتغيير الحقيقي والعميق على المستوى السياسي، على كافة مساحة الجمهورية، نجدهم يهربون بفعل الخذلان واختراقات النظام كي يُوجّهوا الشتائم إلى بعضهم البعض، ويحملون بعضهم مسؤولية الوضع الذي صارت سورية إليه، فأهل المدينة يُحمّلون أهل الريف المسؤولية، وأهل الريف يُحمّلون أهل المدينة وتجارها مسؤولية ما حصل، والجميع تناسى أن السبب الأول والأخير هو هذا النظام البائس الذي لم يشأ، خلال خمسين عامًا، أن يعمل على مشروع الهوية الوطنية للأفراد، وتاليًا للدولة، فبقيت هوية الأفراد مبنية على انتماءاتهم الضيقة، أما هوية الدولة فقد أخذت صفة الأسدية، بكل ما فيها من تغوّل واستبداد.
على السوريين اليوم، مغادرة الفكر (الحاراتي) والعشائري والمناطقي والمذهبي، تجاه فكر الدولة، الدولة بمؤسسات حقيقية مبنية على تكافؤ الفرص، وليس على أساس الولاء للمنطقة أو المذهب أو السلطة أيًا كان شكل السلطة، وليس صحيحًا أن السوريين ذاهبون لدولة حديثة بعد الدولة الأسدية، وهم يحملون في أعماقهم هويات ضيقة وقاتلة، ولكنهم بحاجة إلى كل جهد ممكن، من أجل تخليق هوية وطنية جامعة تكون ضمانًا للجميع.