الحديث عن أزمة الإعلام الكردي الحزبي، يثير شجونًا وهمومًا على مستوى النوعية، ونمطية الإصدار، والفاعل البشري فيها، ودور الـ (سوشيال ميديا) في رفد الإعلام.
إعلام حزبي وفقدان بريق
عانى الريف في المناطق الكردية فقدان مقومات توفر المعلومات والاطلاع على ما يحصل في المحيط والوسط والعالم الخارجي، لذا كانت المنشورات الحزبية بمثابة تلفاز متنقل لإيصال المعلومة، وعلى الرغم من البؤس المحيط بالإعلام الحزبي، للظروف الذاتية والموضوعية، فإنه نجح إلى حد جيد في إيصال المعلومات والبيانات والسياسات العامة للأحزاب الكردية، وما تعرُّضُ المئات للملاحقات والاعتقالات والطرد من الوظائف، سواء بسبب التوزيع أو الاقتناء، إلا دليل على خطورتها على الأنظمة المتعاقبة في سورية.
لكن مشكلة الإعلام الكردي الحزبي تفاقمت أكثر بعد عام 2011، إذ لم تتوجه أغلب الأحزاب الكردية إلى تطوير نوعية ونمطية إعلامها خاصة الجرائد الحزبية. وللأمانة: الحديث عن أزمة الصحافة الورقية الكردية لا يتعلق بتاريخ الأحزاب الكردية، ولا بعدم اهتمام الشارع الكردي بالإعلام الحزبي، لكن تلك الأزمة لا تنفصل عن مشكلة الهرمية والنفسية الحزبية، وعن الإعلام الكردي ككل، والمشكلة تعود إلى بنية هيكلية الإعلام في الأحزاب، وإلى شعور التملك المصاحب دومًا للقائم على الإعلام الحزبي، فضلًا عن المناخ السياسي، سواء ضمن الحزب نفسه أو ضمن الحرم الجغرافي الذي ينشط فيه الإعلام الحزبي.
المدهش أن مظاهر تلك الأزمات مستمرة وحاضرة في المشهد الكردي العام، حتى قبل الحدث السوري، وما مئات المقالات والبحوث المنشورة عن تراجع الإعلام الحزبي الكردي، إلا دليل على الانغلاق الفكري لدى معظم القائمين على الأمر، ومع ذلك استمر غياب صحافة الـ (أونلاين) والإعلام البديل الجديد، وثقافة صحافة المواطن ووسائل التواصل الاجتماعي والخدمات الإخبارية المتلفزة، عبر تلك الوسائط والتطبيقات الحديثة على الهواتف المحمولة، ولم يوجد لها أثرٌ أو مجرد اهتمام لدى المعنيين.
غياب الفاعلية الإعلامية ضمن الحرم المحدد المتاح
أزمة الصحافة الكردية اليوم تختلف عن مثيلتها بالأمس. إنها أزمة التعامل مع التكنولوجيا؛ ما عقّد مشهد أزمة الإعلام على مستوى السطح والمضمون، فقد اختفت خلال الأعوام العشرة الأخيرة عددٌ من النشرات الداخلية، والمجلات والصحف التي كانت تتغنى بأدب القضية، وأدب الطفل… إلخ، واستمر التراجع على مستوى النشر والتوزيع والاهتمام بالكوادر الإعلامية الحزبية، وتعرضت الخطط الإعلامية -إن جاز التعبير- لارتباك ملحوظ على مستوى الأعداد المطبوعة وآليات إيصالها إلى الفئات المستهدفة، واقتصر ذلك في غالبيتها على الأعضاء الحزبيين.
مع كل التطور الحاصل في مجال الإعلام، على الصعيد الدولي والإقليمي، وفي الداخل السوري؛ تكونت الأطراف المدعية لصناعة ومهنة الصحافة والإعلام الكردي، من حزبيين صحفيين، وحزبيين مسؤولين عن الصحافة، حتى القراء الحزبيون والمستقلون والمتابعون، تعايشوا مع الأزمة، كأنها لن تنفجر يومًا ما، وراحت الأفكار والمقترحات كلها تدور حول الصندوق نفسه وفي داخله، وجلّ هؤلاء يَدرِكون أن التطور التقني، والنقلة النوعية في التكنولوجيا والطفرة في ثورة الإنترنيت، فرضت حقائق وتغيرات وتحديات جديدة، تستدعي حلولًا غير تقليدية والتغريد خارج الصندوق.
عزوف عن القراءة وغياب البديل
واضحٌ حجم الضرر البالغ الذي لحق بصناعة الصحافة الكردية، وقد دفعت التدخلات الحزبية بقسم من الأقلام المرموقة إلى التوجه صوب الصحافة الإلكترونية وخاصة المواقع السورية والعربية ووسائل التواصل الاجتماعي، والاستفادة من تقنية معرفة عدد المشاهدات ونوعية الجمهور القارئ وخصائصه، عبر التفاعل وغيره. بإمكان الأحزاب الكردية اللجوء إلى آلية بث الإعلانات الذكية، لنشر منشوراتها وأدبياتها وشرح سياساتها، عوضًا من (أو مع) الصحف الورقية النمطية، التي تخاطب جمهورًا محدود العدد وغير معروف، لا سيّما بعد عزوف كثير من القراء –خاصة الشباب والنساء– عن الصحف الورقية.
معظم الصحف والجرائد الكردية، اليوم، تتعرض تقريبًا لخسائر هائلة بعد تراجع عدد قرائها، فماذا سيحل بها لو كانت مأجورة الثمن؟ من شبه المؤكد أنه سيتم تقليص المطبوعات إلى أكثر من النصف. لكن فشل الهدف هو خسارة بحد ذاته، خاصة أن جميع الأحزاب تركز على الجريدة الورقية فقط، وهي شهرية الصدور صغيرة الحجم، تحتوي على مواد منشورة أو بيانات حزبية، فما الذي سيجذب القارئ لمتابعتها، وجلّ المضمون معروف مسبقًا، بفضل السوشيال ميديا؟
بمعنى آخر: إنها أخبار قديمة، يغيب عنها الرصد والتحليل، أما بقية المعالجات الصحفية فإن قسمًا منها تقليدي وسطحي، وتكاد تخلو المضامين المنشورة من الروح النقدية، وهي تعدّ أهم مكونات الإعلام. في هذا السياق فإن السبب المباشر يعود إلى محددين: أولهما عدم تفريغ الكادر الإعلامي الحزبي المتقن عمله، وسدّ جميع المنافذ أمامه، وفرض بؤساء الإعلام عليهم، والمحدد الثاني يرتبط بالمناخ السياسي العام والحزبي الخاص وتراجع المهتمين بالصحافة الورقية.
دعم مشروط ورقابة مزاجية، خلق غياب المنافسة!
الدعم الحزبي للإعلام عادة ما يمرّ عبر قنطرتين: الأولى أن دعم الصحفيين والكتّاب والإعلاميين يقابله ولاء شخصي، وهو ضعف كبير في الصحافة الورقية وفي إمكانية التأثير في الرأي العام من جهة. وعدم رغبة بعض القيادات في تقديم الدعم والمساعدة، خشية أن يؤدي ذلك إلى المطالبة بالمزيد من إجراءات الإصلاح السياسي والاقتصادي وتوصيات في تطوير الأداء الحزبي والسياسي من جهة ثانية، وهي القنطرة الثانية التي تمر عبرها الصحافة الحزبية.
كرديًا، ثمة جهتان سياسيتان متنافستان في كل شيء: إحداهما “الاتحاد الديمقراطي” الذي سخّر الطاقات العملاقة للإعلام، ونجح إلى حدّ بعيد في التأثير في الرأي العام الشعبي، واستطاع خلق حالة العنف المراد ضمن الوسط المجتمعي، وتنوعت وتعددت أساليبهم الإعلامية من خاص وعام وحزبي، وحزبي بواجهة مستقلة، ونشطاء وإعلاميين و…. إلخ؛ والجهة الأخرى هي “المجلس الكردي” الذي ما يزال يكتفي بشيء من المتابعة الإعلامية، وأصبح غير قادر على منافسة الآخر الأكثر قدرة على البث المباشر، ومتابعة الأحداث بالصوت والصورة.
وتجدر الإشارة إلى أن أعداد الصحافيين والإعلاميين والكتّاب الراغبين في العمل تحت مظلة الجهة الثانية أكثر بكثير، لكن سوء التخطيط وعدم الاهتمام وغياب الجدّية وعدم النظر إلى الوقت كقيمة معرفية ونفعية، يدفعهم إلى البحث عمّا يؤمن لهم حياتهم الخاصة.