مع صعود أحزاب اليمين في أوروبا، ووصول بعضها إلى مراكز صنع القرار في المجالس التشريعية، تمّ تسليط الضوء على هذه الظاهرة العالمية والخطيرة، ودورها في نمو النزعات اليمينية أو الأصولية، وما زالت النخبة اليسارية تصرّ على قراءة هذه الظاهرة على أنها لبوس تتستر به المصالح الاقتصادية والمادية فحسب.
هذا الإصرار النخبوي الماركسي على قراءة حركة الصراع بين الطبقات الاجتماعية، وردّه دومًا إلى المصالح الاقتصادية والمادية، هو لتجنب الحديث عن إشكالات المجتمعات العربية، وهروب من أي حديث عن الديني، وخصوصًا إذا ما كان الديني هنا الأقلوي المذهبي!
قام “الإخوان المسلمون” بتمردهم المعروف على السلطة السورية في الثمانينيات، لا رغبة في الوصول إلى السلطة كونها سلطة، بقدر ما كان الباعث على تمردهم هو تخليص السلطة من حكم أقلوي، تتغلغل فيه أقلية اجتماعية ودينية لتكون حاكمة لمجتمع تدين الأكثرية فيه بالإسلام.
يمكننا تلخيص جوهر الصراع وأسباب انتفاضة الإخوان على السلطة الأسدية، بخطبة منبرية خطبها الأكاديمي ممدوح جولحة، في أحد مساجد اللاذقية، ومما جاء فيها: “إنّ حافظ الأسد لا تجوز ولايته على المسلمين”، لتقوم السلطة باعتقاله وإعدامه ميدانيًا والتمثيل بجثته، ومعه رئيس فرع نقابة المحامين برهان عطور.
الحقيقة المرة، وهي لبّ الصراع في سورية وجوهره منذ خمسين عامًا، أنّ الأغلبية السنية ترى نفسها محكومة من أقلية مذهبية انشقت عن الإسلام، وقد مارست هذه الأقلية الوصاية والتسلط حتى أصبحت اللهجة العلوية مرعبة ومخيفة، ليس في أوساط السوريين في سورية فحسب بل حتى في موجات اللجوء الأخيرة نحو أوروبا.
من المؤكد أن ليس كل العلويين أصحاب سلطة ونفوذ، وليس كل المسلمين السوريين (إخوانًا مسلمين) بالمعنى التنظيمي السياسي، ولكنّ شرَّ السلطة الذي لحق بالعلويين نفسه لحق المسلمين من الخوف من تهمة الإخوان المسلمين، وجنوح المسلمين السوريين نحو التدين واللحى والإسلام بُعيد الثورة السورية هو لشعورهم بتحررهم من حالة الكبت القسري والخوف السلطوي من مظاهر الإسلام، بعد انتصار الأسد في مجازر تدمر وحماة!
بعد الثورة السورية ونجاح النظام في جعل سورية ساحة للصراع، بين يمين علوي متشيع لآل البيت، ويمين سني متشيع لابن لادن والظواهري؛ يمكننا الجزم، وكلنا رجاء، أنّ مهمتنا العظيمة والأخلاقية والتحررية والثورية حقًا هي تخليص المجتمعَين من كلتا النزعتين اليمينيتين المتطرفتين: اليمين العلوي الحاكم والمجرم، واليمين السنّي الذي يجرم. إنّ تخليص العلويين من عقدة الأقلية الخائفة والمظلومة وعقدة السلطة التي ألبسهم إياها آل الأسد والتي ترى في الانزياح نحو العلوية الشيعية خلاصًا لها، هو كتخليص السنّة من عقدة أنّ لا مجد لهم ولا عزة دون دولة الإسلام.
صحيح أنّ يمين أوروبا لا يشبه اليمين السوري الحاكم في شيء، وذلك لأنّ الديمقراطية فعلت فعلها في تلك المجتمعات؛ إذ يصعب على هذه الأحزاب اليمينية أن تعمّم على الناس خطابات الكراهية والعنصرية، ولكنّ اليمين السوري هو بالأساس جاء لترسيخ الدكتاتورية وتأبيدها، وبالتالي يسهل عليه أن يقود أنصاره للثأر من “قتَلة الحسين” في معرة النعمان أو كفر نبل! الدكتاتورية بيئة خصبة لكل المقولات التافهة حتى صارت الصرماية والبوط العسكري مفردة شبه يومية، عند أنصار الدكتاتور العسكري ومؤيديه بل صار “الفنان” يتمنى أن يكون حذاءً عند أكابر رموز الفن والمسرح في دولة الدكتاتور.
كلما طالت محنة السنّة مع هذا النظام اليميني المتطرف، تحت أي شكل غير ديمقراطي تحرري تكون عليه سورية؛ أدى ذلك إلى مزيد من الانفجارات الاجتماعية، ومن المؤكد أنّ انفجارًا ما قد ينجح به السنّة يومًا ما يعني كارثة كبرى على العلويين، تعدل تلك الكوارث التي نزلت بالسوريين في سابق السنين، ولهذا لا حلّ لنا ولا نجاة إلاّ بالتخلص من عُقد الطائفية المستترة وعقد الأكثرية المعلنة، وهذا لن يكون بغير دولة عصرية لا تقطع صلتها بجميل ماضيها وتراثه، ولا تنفك تنظر إلى كل فرد فيها باعتباره كائنًا قانونيًا ومواطنًا سوريًا.
علينا التحول من عُقدة الطائفية الحاكمة إلى عَقد الدولة الحاكمة، وهذا لن يكون دون تكوين رابطة جديدة للسوريين، مبدؤها الأحزاب العصرية ذات البرامج الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتنموية.
إنّ تخليص سورية، وتخليص العلويين، واسترداد توازن السنّة وردّ اعتبارهم الاجتماعي والسياسي، لن يكون قبل ترحيل عائلة الأسد، وإنّ الحفاظ عليها ودعمها من القوى الخارجية، وخطف أبرز وجوه المعارضة فيها، يدل على أنّ لا حياة للسوريين ما بقيت هذه العائلة.
إنّه هدف يجب أن نفعل كلّ شيء حتى ننجزه، الثورة اليوم هي أن نفكر كيف نكنس هذه العائلة من تاريخ سورية وإلى الأبد.