لو سألتَ “مثقفًا” عن سبب تمسكه بالنظم السياسية القائمة كأدونيس مثلًا، ومثقفًا آخر عن سبب رفضه وخروجه من دائرة هذه الأنظمة، وعن سبب انتمائه إلى الثورة كالراحل صادق جلال العظم؛ لوجدت لدى كل منهما كثيرًا من المبررات، سواء للاستمرار أو الانقطاع، وستبقى هذه المبررات والأسباب محض راهنية سياسية قابلة للتغيّر في زمن قصير أو طويل، هي ذات المفارقة بين مكاسب التماهي مع الأيديولوجيات الريعية، وبين ضرورات النقد المعرفية والغوص في عمق المجتمع، وإنْ كلفت صاحبها الثمن الباهض، فالفكر ليس حالة معرفية وحسب، نذيب فيها العالم بمسلماتنا، بل هو موقف عملي يندرج في سياق الحياة والممارسة اليومية أيضًا.
المفكر والفيلسوف صادق جلال العظم لا يحتاج إلى من يدافع عنه وعن فكره، وعن انتمائه إلى وطنه، وإلى مشروع الدولة الوطنية التي يراها نتاجًا للتغيرات اللازمة والضرورية في حركة المجتمع، وإمكان تقدمها وإعلائها من شأن الإنسان، فـ “سواء تأسلمت أم تعلمنت هي ثورة”، هكذا رآها العظم، كما رآها الوطنيون السوريون الذين لم يروا منها موضع قدم لكسب سلطة سياسية خلاف غيرها، بقدر ما هي هوية للكرامة الإنسانية والحريات العامة التي طالما نظر إليها، واشتغل بها، ودفع ثمنها الكثير من حياته وروحه!
العظم المتوفى قبل عام من اليوم في الحادي عشر من كانون الأول، في برلين بألمانيا، منفيًا خارج وطنه، هو ذاته المدرّس في جامعة دمشق، ورئيس قسم الدراسات الفلسفية فيها لأعوام، والأستاذ الفخري في الفلسفة الأوروبية الحديثة فيها، قبل أن يغادرها إلى جامعات أخرى، والكاتب النهم في الفكر المعاصر والحداثة والدولة الوطنية، من قبيل “نقد الفكر الديني”، و”ما بعد ذهنية التحريم”، و”دفاعًا عن المادية والتاريخ”، والكثير من الدراسات الفلسفية والعصرية؛ وكذلك هو عضو في مجلس الإدارة في المنظمة السورية لحقوق الإنسان، وهو الذي ما انفك يربط بين علمانيته وفكره الحداثي بسلوكه العملي، ومواقفه المنحازة لمصلحة الإنسان ومظالمه، ولو كلفه ذلك عداء السلطات وتجريمها له.
يمكن لأي مفكر أو كاتب، أن يقدم نقدًا لفكر الرجل، لماديته التاريخية ومرجعيتها الماركسية، لعلمانيته وصراعه مع الأيديولوجيات الأخرى، وهذا مجال مفتوح للفكر ولآليات تقدمه وتطوره وتفاعله في سياقي الكونية العالمية ونقدها، والمسألة المحلية وتوضعات ثقافتها، لكن لا يمكن لشخص أن يقدم نقدًا لأخلاق الرجل ووطنيته، وهذا ما على السوريين -باختلاف أيديولوجياتهم ومرجعياتهم الفكرية- تجنبه، وإلا؛ وقعوا في دائرة التخوين والتكفير، تلك التي كانت أساس ومولد الثورة التي دفع ثمنها ملايين السوريين موتًا واعتقالًا وتهجيرًا.
مثله مثل الكثيرين من المفكرين السوريين الذين تحسسوا مسار المسألة السورية لم يُخفِ العظم تخوفه من الفعل العنيف ورده المضاد، فقدّم كثيرًا من الرؤى المعالجة لذلك، نقدًا وتفسيرًا وتحليلًا، خاصة بعد كم الخذلان الذي مُني به المشروع الوطني السياسي، وتحوله إلى مقومات دفاع، تشكلت له أطر ومقومات عسكرية وعقائدية انزاحت فيه، مع الزمن، عن المسار الوطني المفترض لمشروع الثورة والتغيير، وربما تحتاج هذه النقطة البحثية إلى كثير من الدراسات السيكولوجية والاجتماعية والدينية والسياسية، قبل البتّ بها فكريًا، حتى لا تشكل عاملًا إضافيا في قياس مستوى الكارثة السورية، تزيد من مأساته حين لا تُنصف مظالمه بالمبدأ، فالعظم رأى مبكرًا أن “السلطة في سورية وضعت حركة المجتمع المدني أمام خيارين أحلاهما مر: فإما الأحكام العرفية للعسكر أو الأحكام العرفية للطالبان والجهاديين الإسلاميين التي يسمونها شريعة إسلامية”، كما وصفها في عدة مقالات، ومنها في موقع الحوار المتمدن، وهذه الصورة في التحليل والتوصيف لصادق جلال العظم تبدو مهمة، في سياق سؤال (لماذا؟) و(إلى أين؟) كصورة بحثية استباقية لمسارات الحالة الكارثية التي وصل إليها الشعب السوري، بعد أن كانت بوصلته مقاومة الاستبداد السياسي والعسكري، ليبتلي بالاستبداد العقائدي والديني المكفر لغيره والمرتبط بأجندات الإرهاب العالمي؛ ما جعل ببساطة شديدة كفة الميزان العالمي، الحساسة جدًا ضد الإرهاب، تميل في عكس الانتصار لمظالم هذا الشعب المحقة، وتغض البصر عن كل مطالبه المشروعة، أمام سؤال البديل عن نظام العسكر: هل يجوز أن يكون نظام التطرف؟ الحجة التي أودت بالسوريين إلى كارثة قرن إنسانية ومجتمعية ومصيرية، وليس ذلك وحسب، بل إلى تحول سورية إلى قضية تقاسم نفوذٍ دولي وسياسي!
في العمق، لطالما مارست النخب السورية والعربية أيضًا نقدَها الكثيف لقضية التأخر الذهني العربي، المتكثفة في قضيتَي العقلانية في مقابل الغيبية الدينية، والعلمانية في مقابل المسوخ السياسية “المتمركسة” سوفياتيًا و”القومجية” ذات النزعة العنجهية العسكرية المتسلطة؛ فـ “نحن ليس لدينا اشتراكية في العالم العربي، في حين أن التجربة الاشتراكية حققت أهدافها في البلدان الاشتراكية، بمعنى أنها نقلت دول أوروبا الشرقية من دول (عالم ثالثية) إلى مستوى قريب من الدول المتقدمة، علميًا وثقافيًا وإنتاجيًا، بالدرجة الأولى. العلمانية هي الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والإثنيات التي يتألف منها المجتمع”، على حد قول العظم في الحوار المتمدن أيضًا؛ ومع هذا بقيت لليوم النزعات الشوفينية والأيديولوجيات المغلقة التي تُمنى بهزيمة تلو هزيمة لم تقرّ بعدُ بعقم إنتاجها المعرفي والسياسي، وكم الكوارث التي أحدثتها في المجتمع، سواء تلك الممانعة والمقاومة المزيفة منها التي لم تُطلق طلقة على عدوّها المفترض لتبقى متربعة على عرش السلطات، أو تلك المتآلفة معها في لعبة الديمقراطية الشكلية المزيفة في ما يسمّى “جبهة وطنية تقدمية”، لا تمارس من السياسة سوى الرياء والمخاتلة والبحث عن مكاسب فردية، لا تزيد عن مكتب وسيارة نقل، وموقع حظوة لدى رؤساء أجهزة الأمن! وكذلك المتأسلمون الباحثون عن مجد غائب منذ 1400 عام، وليتهم يبحثون في مقوماته الإنسانية، لا في موروثه السياسي المفكك والمتخارج مع العصر فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا. لتغدو مقولة المطحنة السورية القاتلة مزدوجة الفكين، بين استبدادين: عسكري/ سياسي، وتأخري تسلطي ديني مشوه سياسيًا، ومعاق فكريًا يعادي كل ما هو خلافه.
صادق جلال العظم ليس وحيدًا ولا منفردًا، وعلى قلة أمثاله من المفكرين الذين يقضون معظم حياتهم في همّ المعرفة، فإنهم كثر في ميزان المعرفة والوطنية، وإنْ تأخر حضورهم المجتمعي العام بشكل سياسي وقانوني حقوقي، لكن ميل التاريخ ميل حقوقي بالعام، وستغدو هذه الأفكار واقعًا عامًّا ذات يوم، عندئذ يمكن أن ننتقل إلى موقعة نقدية مختلفة ذات بعد وطني بالثقافة وكوني بالمعرفة، من دون الاكتفاء بالسلطة وشهواتها فقط، وبأي طريقة.