هموم ثقافية

الدراما كوسيط عاطفي

ما زالت الدراما هي الوسيط العاطفي بين فن الأداء والتلقي، وما زالت تتمحور في الفنون الأدائية، كالمسرح والسينما والأعمال الفنية التي يقوم بها الممثلون، ولم تنفرد فيها أكاديميات تدرّسها، كعلم جمالي مستقل عن الفنون الأدائية. حتى في النصوص الإبداعية، لا تُذكر كقيمة مستقلة خارج النص المسرحي أو السيناريو السينمائي.

لذلك ارتبطت –تاريخيًا- بالمسرح أولًا، ثم في السينما فيما بعد.

لكن أسئلة مهمة تُثار عن علاقتها بالنص الإبداعي المكتوب أدبيًا، أو بالفعل الإبداعي بشكل عام، كالفن التشكيلي والموسيقى.

هل نعتبر الدراما فعلًا جماليًا ملازمًا، كشرط لصيرورة الإبداع بشكل عام؟ أم هي فقط وسيط عاطفي يعتني بإنتاج المشاعر لدى المتلقي، عدا أنها تحتوي على شروط أخرى، من الشروط الشكلانية للعمل الفني، كالبناء والإيقاع؟

أعتقد أن جوهر الدراما، كفكر وكشكل، يعتمد على مدى إبداعية الفعل الفني في القدرة على إنتاج المشاعر بشكل خفي ومتقن، محسوس وليس مدركًا. وربما كانت الشرط الرئيس في أي عملية إبداعية، خارج ولادتها التاريخية في النص الأدائي، من كتابة وصناعة أمام المتلقي.

في العادة، نقرأ اللوحة بنائيًا، لكننا لا نستطيع حساب القيمة التأثيرية أو التأثّرية لدى المتلقي، فنحتار في قيمة هذا التأثير، ونربطه بنسبية التلقي، فنقول: شكلت الرواية (س) أثرًا عاطفيًا، أو كانت اللوحة الفنية ذات تدفق عاطفي، بعيدًا عن قراءة المحتوى الفني لهذا العمل أو ذاك.

ونستطيع تفكيك العمل الفني، شكلًا وموضعًا ومحتوى، دون إدراك الوسيط العاطفي مع التلقي، وإذا تم هذا الإدراك، بقي على الصانع أو الناقد أو المتلقي حساب مصدر التدفقات العاطفية وماهيتها ومن أين أتت؟ وما هي الأسس الرئيسة لخلق هذا التدفق العاطفي، الذي يتشكل كوسيط عاطفي، بين الموضوع الفني، وأثره.

حتى في فن الخطابة، أو الغناء والموسيقى، تقال نفس الكلمات وذات الألحان، لكن تتغيّر كثافة الوسيط العاطفي، ويختلف التأثير وتتخلخل القيمة الفنية، للعمل الإبداعي.

هنا يكمن سحر وجود الدراما في العمل الفني، مهما كان نوعه، فتصبح الدرامة كفن وحرفة، عابرة للأشكال الفنية، ما يجعل وجودَها، في أي عمل فني، شرطًا وجوديًا، لإظهار القيّم الفاعلة، في العمل الفني، وهي (الدراما) تشبه المنشط الكيميائي لخلق التفاعلية الكيميائية، بين عناصر المركب الفني، وكأنها الماء الذي تذوب فيه وبه العناصر، كي تُشكل محلولًا يحمل هويته الخاصة كفعل إبداعي.

قد تجد الحكايةَ والأحداث والكلمات، والنتيجة رواية، لكنها ستكون سطحية (أفقية) بمعزل عن الدراما، فالدراما هي التي تشكل الوسيط العاطفي مع المتلقي من جهة، ومع هوية العمل الإبداعي من جهة أخرى.

إن الدراما كالإيقاع، الذي يحوّل ما هو غير فني إلى فني، ومن دون وجودها يتم تغييب الشرط العاطفي للعمل الفني، فيصبح باهتًا غير جاذب للتفاعلية المطلوبة معه.

يقول تشيخوف: “إن الدراما هي الفن المصفّى”، وكأنه يقول هناك فن وفن مصفى، وعندما ذكرَ الدراما لا أظنه قد قصد المسرح أو السينما؛ إنما قصد الفن بشموليته، وكأنه يقول إن الدراما هي الخميرة لعصير العنب، كي يصبح نبيذًا.

الفنون الإدائية من مسرح وسينما (نصًا وتجسيدًا) تسقط كليًا بلا دراما، لكن في الإبداعات الأخرى كالأدب والفنون التشكيلية، والموسيقى والغناء، يكون غياب الدراما سقوطًا جزئيًا، وقد يكون غير مُدرك، بالنسبة إلى المبدع والناقد والمتلقي. فكما أن الكلمات والشارات في الأدب شرط توصيلي للفكرة والمحتوى وصنعة البناء، تكون الدراما وسيطًا عاطفيًا وكيميائيًا للعمل الفني الإبداعي، مهما كان نوعه وشكله.

تغيب الدراما عن تحليل الأعمال الفنية غير الإدائية، فلا نرى القارئ الفني يعير انتباهًا لغيابها أو حضورها، ربما هو غياب فكر تنظيري منضبط للدراما، وغياب للدراسات والبحوث، عن تعريف ماهية الدراما بشكل مستقل وشمولي، ما جعلها رهينة الأعمال الأدائية، كدراما المسرح والسينما والتلفزيون فقط.

حتى في دراسات التاريخ والبحوث التطبيقية العلمية، لا بد من وجود الكيان الدرامي في لب البحث والدراسة. كما أنها تستخدم بدراية أو بغير دراية، في السياسة والاقتصاد والدعاية والترويج. فأنت لا تستطيع الإقناع في الحوارات الحياتية ونقل الأخبار والمعلومات، من دون استخدام الدراما. ولا يستطيع، حتى السياسي المستبد والديمقراطي على حد سواء، الاستغناء عن الدراما، كوسيط عاطفي شعوري، وكضرورة لأصل المفاهيم الميتافزيقية والأسطورية، وكذلك

علم الجريمة والقانون ومفاهيم الإدارات العليا لبناء الدولة، فهي لا تستغني عن الدراما كبناء وتركيب، وربما كان مصيرها الفشل.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق