عندما توصل نيراز سعيد إلى “سلاح” الكاميرا، لتوثيق ذاكرة بصرية للأحداث في مخيم اليرموك، بعد اندلاع الثورة السورية، لم يكن، ربما، على علم بقصة صورة الطفلة الفيتنامية “كيم فوك” التي هزت العالم، وهي تركض بجسد نحيل يلفه النابالم، وتصرخ: ساخن جدًا… ساخن جدًا.
من يطلع على قصة نيراز مع امتشاق الكاميرا، فسوف يستبعد أي طموح لديه للفوز بجائزة، كالتي حصل عليها المصور “نيك أوت”، حين التقط صورة الطفلة المحترقة بالنابالم الأميركي.
“عندما يبتسم المخيم“، هو المعرض الأول للصور التي التقطتها عدسة نيراز، حينذاك لم يتبادر إلى عقله ومشاعره أن تلك الابتسامة لمخيم اليرموك، سيجري اغتيالها بأبشع الأشكال، عندما اندلعت ثورة الحرية في سورية، وسيضطر إلى التوقف بعدسة كاميرته عند حال المخيم وهو قد غادر الابتسام. فالموت والدمار والخطف والجوع والحصار، صار المشهد اليومي الذي يجتاح الحياة في مخيم اليرموك، تمامًا كبقية مدن سورية وبلداتها.
رفض نيراز أن يكون بعيدًا عن مكانه الأثير “المخيم”، فعاد من الجزائر، التي سافر إليها بإصرار من أهله، لإبعاده عن الأخطار، خوفًا عليه، ودون أن يخبر أحدًا، قرر العودة، وكانت طريقه من المطار إلى المخيم، التي اختارها دون تردد. وتزامنت عودته مع بدء جحيم الدمار والموت والحصار في مخيم اليرموك، أواخر 2012، ويصطلح فلسطينيو اليرموك على تلك الفترة النوعية “يوم طيران الميغ”، كنقطة تحول حاسمة ورهيبة، لم تكن في حسبان الناس، حتى أكثرهم تشاؤمًا. وكانت بداية “التغريبة” الفلسطينية الأشد قسوة من تغريبة اللجوء الأولى سنة 1948.
لميس الخطيب، صديقة نيراز ورفيقته وحبيبته وزوجته، التي تعرف كل حقيقة نيراز، وبأدق تفاصيلها، أكدت أنه لم يكن منتميًا إلى فصيل أو حزب أو منظمة أو تنسيقية، وجاء اندفاعه لاستخدام “سلاح” الكاميرا، بعد أن توقف عمله ولميس، مع مجموعات الإغاثة للنازحين إلى المخيم من القرى والبلدات المجاورة، فلم يعد هناك من مغيث بعد إغلاق مداخل المخيم، فلا بد حينئذ من فعل شيء، فكانت فكرة توثيق الحقيقة بالصورة، وإيصالها إلى العالم. وأبدع في هذه المهمة مع عدد من أصدقائه، وأنتج صورًا مؤثرة جدًا، اعتُمدت كمادة للفيلم المعروف (رسائل من اليرموك).
لقد تميزت الصور التي جذبت عيني نيراز إلى عدسة الكاميرا، وقام بالتقاطها، بأنها لا توثق المشاهد المباشرة الصادمة في مجريات الحرب على المخيم (القتلى والجرحى وأشلاء الأطفال والبيوت المدمرة)، كانت تلك المشاهد المرعبة هي الخلفية لما التقطته عدسته من الصور في المخيم، فصارت حياة الناس الباقين على قيد الحياة هي مركز اهتمام حدقتي عينيه وعدسة كاميرته. وسيلحظ من يشاهد تلك الصور دعوتها للتأمل والتفكير. أي أنه أراد إظهار نتائج المأساة الدامية والمدمرة، كما هي على وجوه الناس، وللأطفال وكبار السن، من النساء، المكانة الأولى في التقاطاته. (الملوك الثلاثة، في انتظار الأمل) وكذلك تلك اللقطات التي تنطق بالمأساة بشكل تلقائي وعفوي، مثل لقطة لشاب يبحث في القمامة عن لقمة يتحايل بها على جوعه، وآخر يمد لسانه داخل “مطربان” مربى فارغ ليلحس البقايا العالقة على أطرافه. وذات يوم عندما سقطت قذيفة مباشرة على تجمع الناس بانتظار المساعدة الفذائية، في ساحة “الريجي” وقتلت وجرحت أعدادًا منهم، انشغلت كاميرا نيراز بتصوير الأثر المفجع، كما ظهر على وجه امرأة تصرخ بقوة الفاجعة، واختار للصورة اسم: “الصرخة“.
يومها، وللحظات، قرر نيراز، وأخبر لميس بذلك، مغادرة الكاميرا، والتوجه إلى العمل الإسعافي للجرحى والمنكوبين. لإحساسه بضرورة القيام بعمل ملموس ومباشر في مشاركة مختلفة تفيد المنكوبين والجرحى. وكانت نفسه مكتظة بالمشاعر والأحاسيس، فهو بين “ابتسامة المخيم” التي حلم بها في صور معرضه الأول، وبين كارثة اليرموك التي صنعتها فاشية السلطة ووحشيتها، تمزقت روحه، وربما بحث عن توازنه بتقديم الذاكرة البصرية، شاهدًا على الجريمة، واحتجاجًا على مرتكبيها.
لم يستطع نيراز متابعة مهمته، في التقاط الصور وتصوير مقاطع الفيديو، عندما دخلت (داعش) إلى المخيم، فاختار أقرب مكان لليرموك في يلدا، بعد أن أصبح عمله كمصوِر محظورًا على يد عصابات (داعش). ومن هناك، من يلدا بدأت نهاية حياته، دون أن يعلم بمصيره في الأيام اللاحقة، لاضطراره إلى الخروج من اليرموك. ولقد كانت حياة لميس عنده أهم من حياته، فأصرّ عليها بترك المخيم نهائيًا، قبل أن يغادره هو، وأراد لها مكانًا آمنًا نسبيًا، فخرجت إلى أحد أحياء دمشق.
تؤكد لميس أن طريق نيراز إلى نهايته المأسوية: الاعتقال ثم تنفيذ الإعدام به، بدأ حين تقاعست “منظمة التحرير الفلسطينية” عن تقديم المساعدة له للخروج من المخيم، عندما أصبح البقاء فيه جحيمًا، ولمَا تمَ اعتقاله، لم تحرك ساكنًا لإنقاذه من بين براثن جلاديه. وكذلك الهيئات والجمعيات واللجان “الأهلية”، بل إن إحدى تلك الجمعيات التي تدّعي “الحيادية” هي التي أوقعته في شرك المخابرات، بعد أن وعدته بما يدعى “تسوية وضع”، فوجد نفسه بين مخالب أجهزة المخابرات، ولم يمض وقت طويل حتى كانت جريمة قتله “إعدامه” بقرار من “محكمة ميدانية”، اتخذ في أيلول/ سبتمبر 2016.
هل كان نيراز يتوقع لنفسه هذا المصير المفجع والمأسوي؟! ربما نعم، وربما لا. لكنه كان يعلم أن الجلادين سيحاسبونه على توثيق الحقيقة، وأعلن استعداده لتحمل مسؤولية ما قام به بسلاحه: الكاميرا، عندما رد على سؤال إحدى القنوات الإعلامية عن خطورة عمله. غير أن ما فعله الجلاد ليس محاسبة وفق أي قانون. حيث جاء القتل انتقامًا من الحقيقة التي سعى نيراز لتوثيقها، هو السلوك الوحشي للاستبداد نحو نيراز ومئات الإعلاميين والفنانين والناشطين المدنيين.
لم تتقبل لميس فكرة موت نيراز، رغم معرفتها بوحشية الجلاد ودمويته، فهو موت بلا أثر ولا بقية أو جثمان أو وثيقة. وهو ما يتركها نهب صراع داخلي متواصل لا يفارقها، ولن يفارقها لسنوات. وفوق ذلك فإن الإقرار بفقدان الشريك الحبيب، ترفضه العاطفة الإنسانية المتدفقة، للإبقاء على خيط عالق على زاوية فيها أمل.
عتب ورغبة يساورانها. العتب على المنظمات الحقوقية الملتزمة بقضية الشعب السوري، لتقصيرها في العمل المستمر لحقوق الضحايا، كجماعة وكأفراد. ورغبة في أن تبقى الصورة التي استشهد نيراز وهو يلتقطها حاضرة، في المعارض، وفي المنتجات الفيلمية والتوثيقية، وفي المناسبات كافة، وبذلك يبقى خيط من أمل، ليس بعودة الحياة للضحايا بل بانتصار قضيتهم: قضية الحقيقة والحرية، ليتواصل الأمل.
ذاك الأمل الذي عبّرت عنه رمزيًا صورةٌ التقطها نيراز لطفل يسند وجهه إلى راحتيه وينظر إلى الأفق البعيد. وعنونها “في انتظار الأمل“.
أخيرًا من واجبي أن أشير إلى تجاوزي لطلب لميس مني عدم ذكر اسمها في المادة، وأعتذر منها، إن أخطأت.