إن مَثَل الصورة كمَثَل الإنسان تكون بحاجة، هي الأخرى، إلى شيء من قَصدنا ومن حُبنا ومن اعتنائنا ومن تخوّفنا ومن اهتمامنا ومن مشاغلنا ومن كلامنا ومن خطابنا ومن تحاورنا معها وعليها وفيها… فالصورة الإبداعية فنية، لكنها إنسانية، نتوجه إليها مباشرة بإحساسنا المباشر بها. وإن فعل الإحساس هو الفعل الذي نبسط من خلاله تأثير بعض الصور الفنية على كياننا. فلعلنا بفعل الكتابة نُشارك ببعض مما نحته الإعلامي السوري عامر الموهباني الذي فاز بجائزة (فارين (varenne الفرنسية لأفضل تصوير صحافي، في قسم الأخبار العالمية.
لقد أرخت عدسة المصور الموهباني، في الخامس من شهر شباط/ فبراير 2018، صورة شاب سوري جريح في مستشفى (زملكا بالغوطة الشرقية)، انطلاقًا مما بثته (وكالة الأنباء الفرنسية (AFP بعد أن أُنقذ هذا الشابّ الجريح، وتمت عملية انتشاله من تحت أنقاض منزله المدمر، من جراء الحرب في سورية.
لن تكون هذه الصورة الفنية فعل لذة، نستمتع بها في فنون الفوتوغرافيا، أو فعل نظر مبتهج بالألم الذي يرتسم على الصورة، أو فعل تأمّل يستريح من صخب الحياة وآلامها، ولكنها ستكون ممرًا ضروريًا لليقظة الفنية والتيقظ الفلسفي والاستبصار الحياتي… ولأن هذه الصورة، أقامت حوارًا مع عواطفنا، وأسست من أجل تلاحم ذات الفنان/ الإعلامي بذات المتقبل/ الإنسان، فإننا سنُحاول اختبار بعض من صور إبداعها الفني، وبعض من صدق واقعها كتجربة عايشها الموهباني. تحملت هذه الذات الإنسانية/ المحورية في الصورة، نزيفه، فارتكز المشهد عليه وبث الإعلامي السوري الموهباني الخبر عبر عدسته، وهو يُناضل بين الأنقاض، من أجل كشف الواقع الحي.
تتحوّل هذه الذات الإنسانية، التي نباشرُها في الصورة إلى نصّ تأثيري مبدع، لأنها تُنتج في الآن الواقع بخبراته وآلامه وقدراته وآماله وتاريخه وقصدياته، ومعانيه وصيرورته وصموده. إن “مهمة إنتاج المعنى ترى المعنى كادحًا في الأشياء وفي اللغة، لا لأنه معنى جديد وحسب؛ بل لأننا نُنتجه من جديد، وليس لأنه متعطش ليكون فحسب؛ بل لأننا عطاش للقياه”، كما يقول الفيلسوف التونسي عبد العزيز العيادي في كتابه: إيقاعات واستشكالات في فلسفة الاثبات. فكيف يمكن أن نُؤسس مع هذه الصورة تحاوُرًا منتجًا؟ وكيف يمكن لنا أن نستفيد إنسانيًا من هذا الإبداع؟
الإنسان متعطش لعالم سلمي بلا حروب، ولحقيقة بريئة بلا زيف، ولقول ما يُسكت عنه… فلعل ما صوره عمل الإعلامي عامر الموهباني في مراسلاته الصحفية لوكالات الأنباء العالمية، ما يدفع عن الإنسان، بعض هذا العطش وما يُروي بعض الظمأ. لذلك، نتحاور مع هذه الصورة عبر يقظة الأنا، التي تُحاول الارتواء من مثل هذه الصور الإعلامية، وكشف الواقع كما هو مُصور. لكن هذه الصورة الإعلامية تتجاوز الإخباري والوثائقي، لأنها تُحيلُنا إلى فلسفة من المعاني وفلسفة من الأحداث وفلسفة من الصور، كما تُؤرخ لحكمة الجسد الإنساني، وتنبه الوعي وثراء الإحساس المُرتوي بإرادة فولاذية في الاستمرار. إذ إن ما يتمثل في الصورة من عمق الألم وحدة التعب والإنهاك، يعود بنا إلى الموضوع الأساس: الحرب في سورية، وإلى صدق اعتراف المُبدع السوري عامر الموهباني حين قال: “هذه الصورة تحديدًا تعنيني كثيرًا، فهي تختصر مشهدنا كسوريين مخذولين ننزف الدم منذ سبع سنوات“.
غير أن هذا الموضوع الأساس والمرجع الأصلي للفنان والصحفي الشاب لم ينفصل عن ضرورة الوعي بقيمة الصورة الفنية وقوتها الإبداعية وقدرتها على التأثير. فإدراكنا لهذه الصورة يتجاوز ما هو فني، لأنها تُؤرخ لواقع حقيقي، ولأنها تطلُب تأريخًا صادقًا للحدث: شاب سوري ينزف دمًا، ممسكًا كتفه بيده على موضع النزيف. فمن سيُوقف نزيفه غيره؟
أرخت عدسة المُبدع جسد الشاب السوري وهو ينزف دمًا، وصورته وهو بصدد الضغط على نزيفه بقوة يده التي تُحاول إيقافَ النزيف. وبالتالي تبصرت عدسة الإعلامي/ الفنان الواقع، عبر توثيق آثار دماء لطخت جسده المُتشظي، واختزلَت صدق الواقع في مشهد وحيد.
تقول هذه الصورة، المعنى بجميع الخطابات، الشفوية والمكتوبة، وإلا؛ فما جدوى الصورة، إذا لم تحمل رسالة إنسانية؟ وما قيمة الصورة إذا لم تُعلن نصها في ذاتها؟ إنها تحمل تمثلاً حيًا، يَكشف عن تجلي الشعور بالألم الموجع وعظمة النظرة والانهمام بالذات المجروحة. وكأن الصورة تهمس لنا بعبث القدر وسُخريته من الحياة والعالم والواقع، وكأننا بالذات المجروحة تدمع مع الجسد دمًا…
وبعد، فقد سجلت هذه الصورة الفوتوغرافية خطابًا جريحًا ووضعية اجتماعية مخصوصة لا تحسها إلا الذات الجريحة. فمع أي من الذوات نتحاور؟ وعن أي موضوع نَتحدث؟ وأي خطاب بليغ هذا الذي نُباشره في الصورة؛ بل أي واقع هذا الذي يعيشُه ذلك الشاب اليافع؟
نتواصل مع الصورة، وكأننا نكتشف عالَمًا حياتيا غريبًا عن عالَم الحياة الذي نعيش، فننفتح على موضوعها، وكأننا نكتشف حياة مختلفة، حياة تتألم بصمت مع نزيفها… إنها تُحيلنا إلى إدراك نص ليس بالنص وإلى إدراك رموز، ليست بالرموز وإلى تجاوز جميع الخطابات السيميولوجية وكل المقولات اللسانية، وإلى إدراك ما بَعد الإدراك، وتشكل ما بَعد التشكل، وتمثل ما بَعد التمثل، وإلى كتابة ما بَعد الكتابة، ونص ما بَعد النص… لتُصبح الصورة هي القضية الإنسانية وهي مقصدية العالَم.
وبما أن هذه الصورة الفوتوغرافية تتجاوز كل خطاب وكل إدراك وكل فعل وكل كتابة؛ فهي إذن الفعلُ، وهي النصّ، وهي الحدثُ، وهي العالَمُ. فأي تأويل مجازي يُمكن أن يُفيدنا أكثر من هذا النص المُصور؟ وأي عالَم يُمكن أن ينفتح بَعد هذا العالَم؟ بل هل تستوي صورة الواقع مع واقع الصورة؟ كيف يُمكن الولوج إلى خبايا هذه الذات الإنسانية التي أمامنا؟ هل يُمكن الارتحال من خلال هذه الصورة إلى لحظات تواصلية أعمق؟ ألا يُمكن أن يُعادي تأويلنا للصورة المعنى والواقع؟