قبل عدة أيام، جمعتني المصادفة بأصدقاء من بلدة ترشيحا ومدينة حيفا وعكا وعارة في المثلث الفلسطيني، واتفقنا على أن نقوم بجولة قصيرة على خط وقف إطلاق النار، في الجولان السوري المحتل، حيث دوّت أصوات بعض القذائف في الجانب السوري من الجولان، لكنها سرعان ما صمتت.
لم يطلق أحدٌ النار علينا، لا من الجهة الإسرائيلية ولا من الجهة السورية، ولم يعترض طريقنا أي جيش لا إسرائيلي، ولا سوري، ولا أمم متحدة أو أي جندي من “فلول جيوش الإرهابيين”… فقط صوت القذائف وحده أثار بعض الخوف والذهول داخلنا، والأسئلة التي تخترق وجداننا: إلى متى ستستمر هذه الحرب المجنونة التي تحصد أرواح من تبقّى هناك من بقايا شعبنا السوري، وتُدمّر ما تبقى من الوطن السوري؟ وما تبقّى هناك من بيوت ريفية يسكنها أصحاب البيوت التي نقف على أطلالها وأنقاضها نحن في الجزء المحتل، ونشاهدهم من فوق فضاء ذكرياتهم، قبل طردهم من بيوتهم هنا، قبل أكثر من نصف قرن من الزمان؟
هذه قرية سورية كان يملك معظم أراضيها الشيخ ناصر زعل السلوم وإخوته من العشيرة الجولانية الكريمة “العجارمة”، وكانت تُسمى قرية “مويسة”… أقول لصديقتي الحيفاوية، ونحن نصعد إلى (تل الغرام)، هنا على أراضيها بُنيت أول مستوطنة إسرائيلية في الجولان المحتل مباشرة، بعد شهر واحد من الاحتلال، في تموز/ يوليو عام 1967، كانت تشتهر بزراعة جميع أنواع الحبوب والكرمة والتفاحيات، وتتميز بوفرة مياهها وخصوبة تربتها ومناخها الخاص، وهنا في هذا التلّ الذي يحمل اسمًا تركيًا قديمًا “تل الغرام” أو “تل العشاق”، تُطلق عليه “إسرائيل” اليوم اسم “هار بنتال” و”هار” تعني جبل، وكما يبدو فالتسمية لتخليد أحد مؤسسي المستوطنات الإسرائيلية بالجولان أو اسم تمجيدي لاعتقاداتهم التوراتية، وهنا في هذا التل دارت معارك عنيفة بين الجيش السوري والإسرائيلي، في حرب تشرين عام 1973، انتهت لمصلحة “إسرائيل”، بعد أن استطاع السوريون تحريره بالكامل في الأيام الأولى من الحرب والتقدم في عمق الجولان.
أثناء حديثنا ومشاهدتنا، كان إلى جانبنا مجموعة من السياح الأجانب والإسرائيليين الذين أتوا خصيصًا للتمتع بالقرى والبلدات السورية المُدمّرة، ضمن برنامج (سياحة الاقتتال السورية) الذي يرعاه قسم السياحة في المجلس الإقليمي للمستوطنات، وكانوا يصغون إلى شرح المرشد السياحي الإسرائيلي، باللغة الإنكليزية تارة والعبرية تارة أخرى، ونحن بينهم كنا الغرباء الوحيدين في أراضينا وتلالنا، كما كانت توحي عيون المرشد السياحي وبعض الإسرائيليين الموجودين في المكان.
دون التطرق إلى الخطاب الأكذوبي الذي يشرح من خلاله المرشد تاريخ المكان، وتزييف الحقائق والتاريخ، ما يلفت النظر في هذا الشأن كله هو وجود مواقع لأجهزة صوت مصنوعة من “النورستا” يتم تشغيلها بكبسة زر بسيطة، ومجهزة بطاقة تشغيل كهربائية أو بطارية أو موصولة بمروحة هوائية لتوليد الطاقة، كل ذلك متوفر في المكان، وهذه الأجهزة صديقة للبيئة والإنسان، على حد تعبير إحدى الموظفات في مقهى السحاب، أو باسمه العبري “كوفي عنان” الذي يصفه الجهاز الصوتي بأنه “أعلى مقهى في الدولة العبرية” ويقع على ارتفاع 1171م عن سطح البحر، وفي المقهى معرض تصوير ضوئي -للمفارقة- عن الأماكن السياحية في الجولان، وفي سورية مثل قلعة سمعان بحلب، والكتابة على كل صورة باللغات العربية والعبرية والإنكليزية، وقرب المقهى هناك متحف بالهواء الطلق، وهو معدني وحديدي لأشكال منوعة من الجنود وديناصورات وكائنات مثل الأفاعي وغيرها من الحيوانات الموجودة بالمنطقة، كما يوجد برج المراقبة للزوار والسياح من المستوطنين، ومرصد التل العسكري الذي أقامه جيش الاحتلال منذ عام 1967 وقد فتحه للزوار منذ عام 1991 منذ إطلاق عملية السلام والمفاوضات بين “إسرائيل” وسورية، كما أبقى جيش الاحتلال على بقايا دبابات سورية، وفي أعلى التلة أقام ساحة لتخليد جنوده.
الأجهزة الصوتية في الجولان المحتل هي صناعة مستوطنات الجولان المحتل، انتشرت إلى مختلف المناطق الإسرائيلية، وزبائنها من أقصى اليمين وأقصى اليسار الإسرائيلي، وهذه الصناعة تحتكرها محددة صغيرة في مستوطنة “كتسرين”، وصاحب الفكرة مهندس إلكترونيات إسرائيلي يُدعى “زعيرا” من مستوطنة “كتسرين” حيث احتفل مؤخرًا بتدشين الجهاز رقم 200 على موقع يُخلّد الجاسوس الإسرائيلي في دمشق “إيلي كوهين” في مستوطنة “حماة كادير” (الذي كان معسكرًا للدبابات السورية في قرية التوافيق السورية المدمرة.
هنا بحسب “زعيرا”، يستطيع الزائر مشاهدة كل حكايات وقصص الجولان بالعين المجردة، حيث تخضع كل حكاية مسجلة للعديد من المراحل: اختيار الموقع أولًا، التصنيع، البحث والتدقيق والمراجعة، الاختبار، التسجيل، الدعوة والدعاية والإعلان، لتصل إلى الزائر بأفضل شكل، والهدف من هذا الجهاز هو “خلق حالة من الدمج بين ما تراه العين وما تسمع الأذن”، خمس دقائق لا أكثر نحكي جزءًا من حكاية الجولان… ماذا حصل… أين كنا… وأين أصبحنا.
هنا يتفوق حق القوة الإسرائيلية على قوة الحق السورية، التي تفقد شرعيتها القانونية والأخلاقية مع كل رصاصة أُطلقت إلى صدر سوري، ومع كل قذيفة حوّلت بيوت السورين إلى دمار، ومع كل يوم استمرت فيه هذه الحرب المجنونة التي اقتلعت معظم السوريين من ديارهم، وشتتهم في كل بقاع الارض.
لم يبقَ لنا هنا سوى صورة جماعية للذكرى ومنديل صغير تمسح فيه صديقتي دموعها، ننسحب من المكان بصمت، لنفسح المجال لدخول سياح وزائرين وعشاق في “تل غرامنا” المسحوق وجعًا وحزنًا.