لطالما لعبت العنجهية الإجرامية للأنظمة العربية دورًا أساسيًا في تشكيل شرارة ثورات الربيع العربي ضدها، من حرق عربة “البوعزيزي” وصفعه ودفعه إلى حرق نفسه، إلى قتل “خالد سعيد” تحت التعذيب في معتقلات مصر، وصولًا إلى تعذيب أطفال درعا واقتلاع أظفارهم.
لم تخرج زيارة عمر البشير الأخيرة للأسد عن هذه العنجهية الإجرامية، التي لعبت دورًا في تشكيل شرارة تظاهرات نادت بإسقاط النظام في السودان. ففي عشية الزيارة المشؤومة تلك؛ قام العديد من المواطنين السودانيين بتسجيل وإرسال رسائل اعتذار للشعب السوري عن هذه الزيارة، واصفة القائم بها بالسفه والعته، كما دانت تلك الرسائل التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي الزيارةَ، بوصفها زيارة مستبدٍ لمجرم حرب، نكّل وأوغل في التنكيل بحق شعبه المطالب بالحرية والكرامة.
كان بين طيّات زيارة البشير للأسد دلالات عديدة حاضرة؛ فالمجرم لا يدعمه إلا مجرم مثله، وروسيا، شريكة الأسد في قتل الشعب السوري وتهجيره، هي ذاتها من ارتأت في عمر البشير بوابة “إعادة تأهيل الأسد” سياسيًا، كما أكدت الزيارة على عدم وجود نظام عربي مساند -حقيقةً- لثورات الربيع العربي، ومطالب الشعب العربي الثائر في الحرية والكرامة من جهة، وعلى الأدوار الوظيفية المُناطة بالأنظمة العربية القائمة، بوصفها أدوات احتلال بالوكالة، تلك الأدوار التي تكثّفت في مناصرة مصالح المحتل ضد مصالح شعوبها من جهة أخرى. والمثال الأوضح لتلك الأدوار وتلك الوظائف تجلى في الثورة السورية؛ فالأنظمة العربية القائمة عادَتها سرًا أو بالعلن، فمن هذه الأنظمة من ساهم في حرفها بواسطة المال السياسي، ومنهم من عمل على تشويهها وإلباسها لبوسات لا تمتّ إلى حقيقتها وأصالتها بصلة، ومنهم من يساهم اليوم في إعادة تعويم من فشلت الثورة -حتى الآن- في إسقاطه، وفي إعادة تأهيله سياسيًا.
وكما للزيارة تلك دلالاتها، فإن لتظاهرات الشارع السوداني -أيضًا- دلالاتها ومؤشراتها وحقائقها، وفي مقدمة ذلك؛ الحقيقة الكامنة وراء الثورة الأولى من ثورات الربيع العربي، وهي حقيقة أن الواقع العربي واقع واحد مشترك، تشوبه انتهاكات حقوق الإنسان وانعدام الحريات الأساسية الشخصية والعامة، وهو واقع يغرق في فساد السلطة وأتباعها وذيولها، واقع يعاني التأخر في كل مفصل من مفاصله، أفضى إلى الجهل والجوع والفقر والفوات، وهذه الحقيقة تمثّل احتمالية قائمة لكل بلد عربي، بوصفه مشاركًا “مُنتظرًا” في الربيع العربي، طال الوقت أم قصر. كما تعكس تلك التظاهرات انفصال الطغم الحاكمة عن واقع شعبها، فالحاكم في واد والشعب في واد آخر مغاير تمامًا. ومن الدلالات المهمة -أيضًا- لانتفاضة الشارع السوداني ضد استبداد وفساد نظامه، أن الشعب العربي شعبٌ حيٌ، فبعد كل الإجرام والفظائع اللاإنسانية التي مورست على الشعوب العربية التي انتفضت على طغمها الحاكمة، نرى إصراره على نيل حريته وكرامته، رغم معرفته حجم الضرائب التي سيدفعها ثمنًا لمطالبه وحيويته. فهذا الشعب على يقين تام، بأن حاكمه المستبد سيخطو الخطوات ذاتها التي خطاها المستبدون من قبله، رغم عدم جدواها في حمايته من نهايته المحتومة، وها هو الشعب السوداني العظيم يقدم اليوم بواكير تضحياته، فقد قتلت قوى الأمن السوداني ثمانية متظاهرين عزّل، في اليوم الأول من الاحتجاجات.
مثّل الربيع العربي منذ انطلاقته -وسيبقى- قطيعة الشعب العربي مع منظومة الاستبداد والفساد، وما نشهده اليوم من حراك في الأردن والعراق والمغرب والجزائر، ومن انتفاضة الشعب السوداني العريق، هو استمرار لترجمة تلك القطيعة، ومحاولات لنيل حقوق سُلبت منذ عقود. ومهما تأخر حصاد ما تم زرعه خلال سني الربيع العربي، رغم ما واكبها من دماء ودمار، فإنها -بوصفها تعبيًرا عن إرادة شعب حي- ستجني ثمارها حرية وتقدمًا وكرامة، شاء المستبدون أم أبوا.
أخيرًا؛ ليس بوسع السوريين إلا التضامن مع السودانيين في انتفاضتهم ضد البشير، فقد بعثت تظاهراتهم لإسقاط البشير في نفوسهم الأمل، بعد اليأس الذي جثم فوق صدورهم، نتيجة الحال التي وصلت ثورتهم إليها، وقد عنت لهم تلك التظاهرات شيئًا واحدًا مهمًا: أن حالهم اليوم ليست نهاية المطاف، وأن شعبًا عربيًا آخر حذا حذوهم وثار لثورتهم، وحسبُهم أن تكون زيارة البشير للأسد شرارةً للثورة على الفساد والفقر والجوع والظلم. هو ذا الرد الأصيل والرسالة الأعمق، لتلك الزيارة وما حملته من رسائل.