تحت محور “التعبيرات المسرحية العربية في المهجر”، ورد في دليل مهرجان أيّام قرطاج المسرحية ما يلي: “تنتبه أيّام قرطاج المسرحية في هذه الدورة إلى واقعة مسرحية بات ضروريّا الانتباه إلى أهميتها، تلك التي تجد اشتغالها في تعبيرات مسرحية عربية إقامتها في المهجر، وتلك التي تحرّضنا الآن على تشغيل السؤال حول خلفياتها الفكرية وبدائلها الجمالية وهواجسها الثقافية والهووية: إذ ما الخطاب الذي تشغّله؟ وما الثقافة التي تتبناها؟ وكيف لها أن تتموضع في مناخ جغرافي غير عربي؟ وما وسائلها وسياساتها الإنتاجية؟ وما مدى نجاعتها في استنبات المشترك الثقافي والإنساني بينها والمجتمعات الأخرى؟
ضمن هذا السياق، توفّر أيّام قرطاج المسرحية جملة من العروض المسرحية والتعبيرات الفنية التي وجدت تقاطعها بين الجزائر وفرنسا، وبين لبنان وكندا، وبين ألمانيا وسورية، وبين الكويت وألمانيا. ستّة عروض سيشاهدها جمهور المسرح في تونس، ستحرّضنا على تكريس السؤال حول “تناسج ثقافات الفرجة”.
نشير -أيضًا- إلى ما ورد في دليل المهرجان، حيث تمّ تصنيف مسرحية (يا كبير) ضمن المحور المذكور سلفًا (أخرجها رأفت الزاقوت وكتب نصها معيّة أمل عمران التي شاركت في أدائها وتمثيلها مع حسين مرعي)، وهذا ملخّصها نقدّمه كما ورد في دليل المهرجان حرفيّا: “في مجتمع تقوده فكرة السيطرة والسلطة، يعمل الأب ضابطًا كبيرًا في المخابرات، وهو متورط في الدم المسفوك في البلد، يأتي خبر وفاته إلى أبنائه الذي يعيشون في المهجر. تقرر الابنة العودة إلى سورية، ويمنعها الأخ. عندما يلتقيان يبدأ الماضي بالظهور على السطح: مواجهة تنتهي باغتصاب الأخ لأخته، التي تقتله بعد ذلك وتنتحر. عرض مسرحي قيل إنه جدلي، استفزازيّ بعض الشيء، يغلق دائرة الحوار، ويفتح باب الأسئلة: من القاتل؟ ومن القتيل؟ من الضحية؟ ومن الجلاد؟ في مجتمع أبويّ، تتحوّل العلاقات بين الناس إلى علاقات مركّبة ومعقدة، تبدأ تعقيداتها من العائلة.
كيف تتشكل الهرميّة التي تدير هذه العلاقات؟ من الذي خلق الدكتاتور؟ هل الدكتاتوريات هي التي خلقت المجتمعات الأبوية؟ أم أن الدكتاتور هو ابن هذا المجتمع؟ يولد الأفراد في مجتمع كهذا مبرمجين على وجود (الكبير) الذي هو بالضرورة صاحب السلطة والقدرة: الأب، الأخ الأكبر، وهكذا حتى نصل إلى الدكتاتور الأكبر”.
على هذا النحو، نكتشف نقطتين مهمتين: الأولى يحدّدها المحور الذي تنزّلت في سياقه هذه المسرحية، ألا وهو “التعبيرات المسرحية العربية في المهجر”، وهدفها الرّئيس يكمن أوّلًا في ضرورة اكتشاف هذه التعبيرات، هواجسها وخلفياتها وآفاقها وموقعها ضمن المسرح العربي والمسرح الغربي، ويكمن ثانيًا في إمكانية إعادة طرح السؤال حول المنعطفات الاجتماعية والسياسية والثقافية وتأثيراها على راهن مسرحنا. أمّا النقطة الثانية فيحدّدها ملخّص المسرحية، وتكمن في بعدها الفضائحي والنقدي، وجرأتها على إثارة المسكوت عنه. من دون أن تضع في الاعتبار هذه العتبات النصية لعرض (يا كبير) بما هي مفتاح الدخول إلى مناخاته، سيصبح لغوًا وثرثرة تافهة، كما يقال عنه، وهذا ما حدث فعلًا.
ابتدأ العرض المسرحي، وتفاجأ الجمهور بالممثل حسين مرعي عاريًا تمامًا على الركح، لا أحد من النقّاد أو الأكاديميين أو المسرحيين قدّم بعد ذلك تشريحًا جماليًّا للمسرحية، فكلّ المواقف سقطت سقوطًا مدويًّا ومخزيًا في ما هو أخلاقيّ، يحاكم عراء ذلك الممثل ويجرّمه، أو يدافع عنه بضرب من الغلوّ، في ضرورة استئصال “ذهنيّة التحريم”، وسرعان ما تحوّل الأمر إلى واقعة إعلامية كبرى في الوسط الاجتماعي بتونس.
قد يبدو الأمر إلى حدّ ما عاديًّا؛ إذ ندرك سلفًا تحوّل النقاد وبعض النخب المثقفة، إلى ما يشبه الكهنة، أولئك الذين ارتهنوا إلى حقبة ثقافية بائدة ومنتهية، فلا قدرة لهم على تشريح واقعهم ونقده أو تجاوزه، كما ندرك سلفًا أن المسرحيين من الجيل السابق الذين تعلمنا منهم ومن تجاربهم، فضّلوا منذ مدّة قصيرة نسبيًا الارتهان إلى سياسات الصمت، نتيجة سقوطهم المدوي في ثقافة السوق، والبحث عن مصالحهم الشخصية بالتموقع -سياسيًا- ضمن ما يعرف بحرب التقاطعات، وندرك -أيضًا- أن الجمهور المسرحي على درجة محتشمة من الوعي، إلى حدّ يصبح فيه مجرّد دمية تحرّكها أجندات الإعلام وخلفياتها السياسية.
كلّ ذلك يمكن تبريره من هذه الناحية، ولكنّ الفضيحة الكبرى التي أزعجت الشباب التونسي المنخرط في صلب الممارسة المسرحية والمعارك الاجتماعية، هي موقف إدارة المهرجان من العرض المسرحي (يا كبير)، ذلك الذي تمثّل في إصدار بيان تحت عنوان “توضيح من إدارة أيام قرطاج المسرحية حول العرض السوري الألماني”، وقد تضمن ثلاث نقاط: تمثّلت الأولى في إدانة ما قام الممثل السوري واعتبار ذلك سلوكًا فرديًّا، أما الثانية فتناولت مسألة إخبارية تقول بأن الفيديو الذي اعتمدته لجنة اختيار العروض لم يتضمن عراء ذلك الممثل، في حين تناولت النقطة الثالثة مسألة قانونية تقول بحرية الإبداع والتعبير، كما ينص عليها الدستور التونسي.
نتساءل الآن: من يكون ذلك الجمهور الذي يتوجّه إليه المهرجان برسالة هذا البيان؟ إنّه طبعًا الجمهور صاحب النزعة الأخلاقية، ذلك الذي ثار ضدّ العرض والممثل السوري، ومن هنا نستنتج نقطتين مهمتين، تعكس الأولى رعب الهيئة المديرة للمهرجان وخوفها ومحاباتها للأخلاقيين والرجعيين، رجالات سياسة كانوا أم مسرحٍ، أجل، فثمّة مسرحيون أكثر تعصّبًا ورجعية من التيارات الإسلامية نفسها. أما الثانية فوليدة النقطة الأولى؛ إذ إنّ خوف الهيئة ورغبتها في تبرئة ذمتها من حدث العراء، هو ما جعلها تبحث عن قربان، ألا وهو الممثل السوري. نتساءل الآن أيضًا: منذ متى كانت الكتابة المسرحية ثابتة وغير متحركة؟ إنّ حجّة المهرجان من خلال الاعتماد على متن الفيديو تبدو متداعية جدّا، ولا هدف منها غير إيجاد مبرّرات لتبرئة اللجنة ممّا وقع، وكأن الحدث جريمة ستؤدّي إلى هلاكهم. مقابل ذلك، جميعنا يعرف أن العروض المسرحية تتغيّر بتغيّر فضاء اللعب، سواء كان ذلك على مستوى النص أو الفرجة. ثمّة عدد قليل فحسب من المسرحيين تضامنوا وساندوا الممثل السوري، مقابل الصمت المدوي لكبار المسرح في تونس.!
على هذا النحو، ونحن نتراجع الآن خطوة إلى الوراء، سنكتشف وهم الطابع الشعاراتي للمهرجان، خاصة من زاوية المحور الذي يتناول مسألة “التعبيرات المسرحية العربية في المهجر”، ولمزيد من دفع القضية إلى أقصاها: هل تساءل أحد عن ذلك الشاب السوري؟ من هو؟ كيف دخل حديقة الفنّ المسرحي؟ ما هي مساراته؟ كيف كان يعيش في سورية؟ ما هي العوامل التي دفعته إلى الهجرة؟ ما هو موقفه الآن من القضية السورية؟
إن المعنى السياسي العميق الذي تبنّاه حسين مرعي في العرض، هو إدانة ما يحدث في سورية، والرسالة تتجّه رأسًا إلى إدانة الدكتاتور بشّار الأسد!
ويا حيف: إنّ الذين صاغوا البيان التوضيحي للمهرجان هم أكثر التونسيين مساندة للنظام السوري!! فكيف لم ينتبه أحد إلى ذلك؟ كيف!؟