أوردت صحيفة (وول ستريت جورنال) الأربعاء 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، أن الإدارة الأميركية أصدرت توجيهات للقوات الأميركية في سورية للذهاب نحو الاستعداد للانسحاب، مؤكّدةً أن قرار الإدارة الأميركية سحب قواتها العسكرية من سورية بشكل مفاجئ، جاء بعد مكالمة هاتفية بين الرئيسين: الأميركي دونالد ترامب، والتركي رجب طيب أردوغان.
وتتزامن أنباء الانسحاب الأميركي من سورية، مع وصف وزارة الخارجية الروسية الوجود الأميركي في سورية بـ “غير الشرعي”، مُشيرةً إلى أنه تحول إلى “عائق خطير” في طريق تسوية الأزمة السورية.
في الحقيقة، الحديث عن انسحاب الولايات المتحدة من واشنطن ليس بالجديد أو المفاجئ؛ فالأمر مُطروح على الطاولة منذ اليوم الأول لتدخل الولايات المتحدة في سورية، كقائد للتحالف الدولي لمُحاربة تنظيم (داعش). فالذريعة “الشرعية” لتدخل الولايات المتحدة، فعلًا كما أشارت وزارة الخارجية الروسية، هي ذريعة مؤقتة انتهت بالقضاء على تنظيم (داعش)، وبالتالي بات تواجد الولايات المتحدة في سورية غير “شرعي”، ويفتح الأبواب أمام الأطراف المنافسة للضغط عليها دبلوماسيًا أو من خلال العمليات الاستخباراتية المُستهدفة لقواتها، لاستنزافها واضطرارها إلى الانسحاب. ويبدو أن الولايات المتحدة استبَقت الخطى لتُعلن نيتها الانسحاب. ولكن ما هي طبيعة هذا الانسحاب؟ وسواء أكان انسحابًا تكتيكيًا أو استراتيجيًا، من سيخلف القوات الأميركية في إدارة المنطقة الخاضعة لسيطرتها؟
تمتاز تلك المنطقة بميزات جيواقتصادية، تنبع من احتوائها أغلب حقول النفط السوري، وجيوسياسية تنبع من موقعها المتوسط لمثلث الحدود العراقية ـ السورية ـ التركية. وهذا ما يدفع كثيرين إلى التساؤل: هل ستنسحب الولايات المتحدة فعلًا وتترك هذه الميزات وراء ظهرها؟
في الحقيقة، إن طبيعة الانسحاب التي ترمي إليها الولايات المتحدة ليست شاملة أو مُطلقة، كما يُظن، بل يبدو أنها أقرب من أن تكون جزئية ترمي إلى بقاء بعض الجنود الأميركيين، كقوة استشارية أو عسكرية خفيفة العتاد والتكاليف، داعمة للمجالس الإدارية التي يتم التوجه إلى تأسيسها على نحوٍ تكون فيه محلية، وليس كردية فقط. كما يبدو أن الأمر يأتي في إطار تحضيرات ترامب، للظفر بدورة رئاسية ثانية. وهناك الكثير من العوامل والشواهد والمؤشرات التي تدل على توجه الولايات المُتحدة نحو تحقيق انسحاب جزئي، يقوم على نشر بعض القوات في قواعد على حدود العراق – سورية، وتركيا – سورية:
- واقعية المسار السياسي والعسكري للثورة السورية، التي تؤكّد وجود حالة تقاسم جغرافي للنفوذ، وبالتالي استمرار التواجد الإيراني الراسخ في سورية. وهذا ما يولد التزامًا قوميًا أميركيًا يقوم على حماية الحلفاء في المنطقة، لا سيّما أمن “إسرائيل”، أمام النفوذ الإيراني في سورية، الذي قد تتبنى واشنطن ضده تطبيق استراتيجية “التحجيم والتطويق” عبر محاصرته، من خلال قواعدها التي قد تظل موجودة في بعض أجزاء الحدود السورية ـ العراقية، في الجهة الشمالية الشرقية. تلك الاستراتيجية التي تمكّنها من استخدام استراتيجية “العصا الغليظة” ضد أي تحرك إيراني يخرج عن الإطار المرصود.
- انتهاء الذريعة الشرعية التي تستند إليها الولايات المتحدة في التواجد داخل الأراضي السورية، والتي تقوم على محاربة تنظيم (داعش). كما أن ذريعتها الجديدة القائمة على محاربة الوجود الإيراني، قد لا تلقى صدى واقعيًا، بعد توجه موسكو صوب الضغط على إيران لسحب الميليشيات الشيعية، وليس القضاء على وجودها الكامل، من سورية. لذا فإن المخرج الأفضل للولايات المتحدة في هذه المعادلة، هو الاتجاه نحو “تدويل” وجودها “كقوة مراقبة للسلام” تنتشر على الحدود السورية.
- التوجه الشخصي للرئيس الأميركي ترامب، الذي يقوم على تطبيق مبدأ “تكلفة الفرصة البديلة” الذي يعني أقل التكاليف مقابل أفضل المكاسب. ويبدو أن الفرصة البديلة القائمة على الانسحاب الجزئي أفضل بكثير من موضع الانتشار الحالي.
- تأسيسها لـ (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) بتنوع ديموغرافي عرقي ينتهي بتأسيس مجالس إدارية محلية تُمثل أبناء المنطقة، ليكونوا مُستقلين عن دمشق إداريًا وسياسيًا؛ بشكلٍ جزئي، وبالتالي يحافظون على المصالح الأميركية الجيواقتصادية والجيوسياسية. وقد تلقى هذه النقطة قبولًا لدى موسكو والنظام السوري، كحل وسط لتقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة وحلفائها، لا سيّما في ظل وجود توجه روسي، ظهر في طرح نماذج الدساتير خلال محادثات أستانا العام الماضي، نحو قبول “الشيشنة” كحل في سورية، حيث يتم تطبيق نموذج حل تمرد الشيشان، من خلال منحه استقلالًا إداريًا وأمنيًا وسياسيًا نسبيًا، مقابل إبقائه على تبعية وطنية وسيادية لموسكو.
- إنشاء قواعد على طول الحدود السورية ـ العراقية، وبالأخص قاعدة (الزكف)، والاتجاه نحو إنشاء “مواقع مراقبة” على امتداد أجزاء من الحدود السورية – التركية، في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر المُنصرم. وقد أشارت مؤسسة (راند) البحثية إلى أن واشنطن قد تتجه نحو تطبيق هذا النموذج المطروح، من خلال الانتشار على الحدود، والتوافق مع تركيا، من أجل إتمام هذا النموذج من الانتشار الأميركي الجزئي بالقرب من المناطق الحيوية في سورية. ولعل تصريح وزير الدفاع الأميركي، بخصوص إنشاء “مواقع المُراقبة”، بأن “واشنطن تُنشئ مواقع المراقبة في عدد من النقاط على امتداد الحدود السورية، حدود سورية الشمالية، لأنها تُريد أن تكون الطرف الذي ينبه الأتراك ويحذرهم، إذا كان هناك شيء قادم من خارج إحدى مناطق عملياتنا”، يوضح توجه واشنطن نحو موازنة تحركها بين عناصر شمال سورية المُسلحة وتركيا، حيث تُقدم نفسها كضامن مُوازن لتحركات الطرفين، بما لا يضر بمصالح أي منهما.
- تصريح رئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب الروسي “الدوما”، فلاديمير شامانوف، بأنه “لا بد من مراقبة انسحاب الولايات المتحدة، فهي تبتكبر حيلًا للبقاء”؛ ما يوحي بوجود رصد روسي لمحاولات أميركية نحو البقاء بشكلٍ مغاير لما هي عليه الآن.
- وجود مشاورات لإشراك قوات البشمركة التابعة للمجلس الوطني الكردي ذي العلاقات الجيدة نسبيًا مع تركيا، والمنافس السياسي والعسكري لـ “وحدات حماية الشعب”، في الانتشار على طول الحدود التركية ـ السورية. وهو ما سعت أنقرة لتحقيقه إبان عملية عين العرب، حيث سمحت بدخول قوات البشمركة المذكورة أراضيها نحو عين العرب، مطلع عام 2014، في سبيل خلق نوع من توازن القوى داخل المناطق التي تُسيطر عليها الوحدات. ما يعكس وجود مؤشر لتوجه واشنطن نحو تحقيق انسحاب تكتيكي، تقوم استراتيجيته على الركون لتحقيق تعاون مع تركيا من جهة وعدة عناصر محلية فاعلة في المنطقة الشمالية الشرقية، حيث ترمي واشنطن إلى إبقاء سورية كدولة واحدة مُستقلة ومتوازنة في علاقتها بالقوى المتنافسة التي تتقاسمها جغرافيًا واقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا.
في الختام، تستغرق عملية انسحاب القوات الأميركية من سورية، بحسب تصريحات الجهات المسؤولية، ما بين 60 إلى 100 يوم، وهي مدة طويلة وكفيلة بكشف طبيعة الانسحاب الأميركي بشكله الحقيقي. وفي نهاية المطاف، يبدو، وفقًا للعوامل أعلاه، أن الانسحاب المُعلن يأتي في إطار تكتيكي نسبي، يعتمد استراتيجية “التحالف التكاملي” مع تركيا التي قد تُجري عمليات عسكرية جزئية في تل الأبيض وكراتشوك وعين العرب؛ انطلاقًا من بعض الذرائع الشرعية التي قد تمكّنها من ذلك، من جهة، والعناصر المحلية التي قد تتحول إلى مجالس إدارية محلية تتمتع باستقلال إداري وأمني جزئي.